في شهر كانون الثاني (يناير) من كل عام، تعج وسائل الإعلام العالمية بمقالات حول المساعدة الذاتية المليئة بالنصائح حول كيف نبدأ العام الجديد بداية صحيحة، ومنذ انشتار وباء فيروس كرونا، أصبحت هذه المقالات الركيزة الأساسية للصحف والمدونات في جميع أنحاء العالم.
وهذا ليس مفاجئا، فنحن في خضم أزمة صحية عقلية ذات بعد تاريخي، قائمة على ما يبدو على عدم اليقين وقلة التواصل المباشر مع الأصدقاء والعائلة.
وقال السيد “تيدروس أدهانوم غيبريسوس” وهو المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، إن “الصدمة الجماعية” التي سببها الوباء كانت أسوأ في شدتها من الحرب العالمية الثانية، حتى قبل تفشي فيروس كورونا، وجدت دراسة أجراها الباروميتر العربي أن ما يقرب من ثلث ممن سُئلوا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قالوا إنهم عانوا من الاكتئاب.
ونحن بحاجة ماسة إلى طريقة جديدة للصحة العقلية تمكنا من التعامل مع هذه الأزمة.
فلا عجب إذن، إن بعض الطرق المنسية للصحة العقلية تعود إلى الظهور بقوة مدهشة، وقد يكون من الصعب العثور على الطرق التي يمكن أن تحقق تغييرًا ذا مغزى. ومع ذلك، فإن أعمال الطبيب النفسي السويسري “كارل يونغ” التي عادت للساحة بصورة كبيرة، تستحق شيء من الانتباه والتدبر.
وربما يكون الغوص في أعماق أفكار “يونغ” حول نفسية الإنسان هو أفضل طريقة لبدء عام 2022، بنظرة جديدة وحيوية متجددة، ولكنه بالتأكيد ليس لضعاف القلوب.
ومن المحتمل أن القارئ قد مر باسم عالم النفس السويسري “كارل يونغ” بمحض الصدفة، حيث كان الأخير طبيبًا نفسيًا معروفًا بعمله المشترك المبكر مع “سيقموند فرويد” في مجال تحليل الأحلام وتطوير التحليل النفسي في بداية القرن العشرين.
وأنهى “يونغ” و “فرويد” مشوارهما المهني في أوائل العقد الأول من القرن الماضي، مما مكّن يونغ من تطوير نظرياته حول طبيعة العقل الباطن البشري وأسس علم النفس التحليلي.
وحققت واحدة من أكثر نظريات “يونغ” إثارة للجدل أنتشار كبير على قناة “تيك توك” كوسم في منتصف عام 2021 ، أي بعد مرور 60 عامًا تقريبًا من وفاته صاحب النظرية، وشوهد ذلك الوسم #shadowwork أكثر من 419 مليون مرة.
وشبه “يونغ” نفسية الإنسان بسطح المحيط، فنحن نعمل جميعًا على السطح من خلال توظيف ذواتنا وشخصيتنا، وهو عرض أو إنعكاس لكيفية تصرّفنا في المجتمع، وبعبارة أخرى، الشخصية هي قناع نرتديه في الأماكن العامة.
ويختفي العقل الباطن المترامي الأطراف وراء الأحداث اليومية، وفي ذلك الجزء الغامض من النفس البشرية، يملك كل شخص منا ظل ما، نضع فيه كل ما لا نحبه في أنفسنا أو ما نخجل منه، وكتب “يونغ” أن “الظل هو تلك الشخصية المخفية وغالباً المقموعة، والمثقلة بالذنب والدونية والتي تصل جذورها النهائية إلى أجدادنا من الحيوانات.”
ولا يمكن للمرء التخلص من ظله، وينشأ التوتر النفسي (والذي يتجسد غالبًا في شكل أزمة منتصف العمر، وهو مفهوم طوره يونغ) من محاولات عقيمة لقمع الظل، ويكمن الطريق إلى الكمال والحياة المفعمة بالرضى في قدرتنا على مواجهة ذلك الظل وفهمه وفي النهاية ترويضه.
وأشار “يونغ” إلى هذه العملية على أنها الاندماج مع الظل، وكتب “يونغ”: “لا يستنير المرء بتخيله لأشكال الضوء، بل من خلال تحويل ظلام [الظل] إلى نور أو وعي.”
والقول أسهل من الفعل، ولكن لحسن الحظ ترك “يونغ” سجلاً مفصلاً لمحاولاته الشخصية لاستكشاف ظله، وفي عام 1913، بعد انفصاله عن فرويد، أنطلق “يونغ” في رحلة استكشاف باطنية في حنايا نفسه، من خلال تقنية أطلق عليها اسم الخيال الفعال، حيث كان يدخل في حالة من الحلم اليقظ في محاولة للحفر في أعماق ذاته أو عقله الباطن.
وكتب عن تجربته في مجموعة من المجلدات المعروفة باسم “الكتب السوداء” والتي توضح تفاصيل لقاءاته مع جميع أنواع العناصر البصرية، بما في ذلك المعلم الداخلي الذي أسماه “فليمون”.
وبناءً على مقتطفات من “الكتب السوداء” عمل “يونغ” على نسخة مصقولة أكثر من المادة التي تطورت لتصبح أحد أعماله الأساسية، وهو “الكتاب الأحمر” ولم يتم نشر كلا المجلدين أثناء حياة “يونغ” وأصبحا مصدر جدل كبير.
وعرف محللون أعمال “يونغ” والعلماء بوجود تلك الكتب من خلال تلميحات “يونغ” عنهما في كتاباته ومحاضراته، لكن احتارت عائلة “يونغ” بشأن نشر تلك الوثائق الحميمة والتي تكشف الكثير عن المفكر البارز، وبعد عقود من الجدل، نُشر “الكتاب الأحمر” أخيرًا في عام 2009، ونُشرت “الكتب السوداء” في نسختها الكاملة في عام 2020.
وفي حين أن هذه الكتب تحوي الكثير من الأطناب والإسهاب ويصعب على القارئ العادي فهم محتواها، إلا إنها تفسر لماذا يعد “يونغ” المفكر النقدي الذي نحتاجه لمواجهة الأزمة الصحية العقلية الراهنة.
ونصيحة “يونغ” لنا جميعًا هي النظر إلى أعماق أنفسنا، ويجب ألا نخجل من ظلنا، كما يجب أن نتعامل معه وجهاً لوجه حتى نتمكن من الوصول إلى مرتبة الكمال مع الذات، وكتب يقول: “كل ما يزعجنا بشأن الآخرين، يمكن أن يمهد الطريق لفهم أنفسنا.”
ومن خلال استكشاف صراعاته كما هي موضحة في “الكتاب الأحمر” و “الكتب السوداء”، يمكننا تعلم كيفية القيام بالمجهود الشاق لإيقاظ نفسية المرء بشكل أفضل، فهل يمكنك التفكير في طريقة أفضل لبدء العام الجديد؟
جوزيف دانا هو كبير المحررين في إكسبونانشال فيو، وهي نشرة إخبارية أسبوعية عن التكنولوجيا وتأثيرها على المجتمع، وقد شغل سابقًا منصب رئيس تحرير “إميرج 85”، وهو مركز يستكشف التغيير في الأسواق الناشئة وتأثيره العالمي.