سميت أوكرانيا على الأرجح على اسم الكلمة السلافية التي تعني “الأراضي الحدودية”، وكانت منذ فترة طويلة حلقة وصل بين الشعوب والحضارات والتجارة وجسراً للغزوات العسكرية، ومع تصعيد روسيا لتهديداتها ضد البلاد مرة أخرى، فإن مصادر الطاقة هي أحدث مورد يتم تسليحه.

وتزود روسيا نحو 40 في المئة من الغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي، وبينما لا تشتري بريطانيا الغاز الروسي بطريقة مباشرة، إلا إنها مرتبطة بالقارة وجزء من نفس السوق. وارتفعت أسعار الغاز في كل من أوروبا والعالم إلى مستويات قياسية منذ شهر سبتمبر، مما أدى أيضًا إلى ارتفاع أسعار الكهرباء في القارة إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق.

وأدى الانتعاش الاقتصادي بعد مرحلة الإغلاق الذي صاحب الجائحة، فضلا عن الانقطاعات الفنية بسبب الطقس، إلى خلق توتر في السوق، وفاقمت روسيا من حدة ذلك التوتر، حيث خفضت مبيعات الغاز ولم تعيد ملء منشآت التخزين تحت الأرض التي تمتلكها في أوروبا، وسيرفع أي قتال جديد بين روسيا وأوكرانيا الأسعار إلى مستويات أعلى.

وقد يؤدي أي نزاع جديد بين روسيا وأوكرانيا إلى قطع إمدادات الطاقة الأوروبية من خلال ثلاث طرق، فمن الواضح أن أيًا من الجانبين يمكن أن يلحق الضرر بالبنية التحتية، من خلال الهجمات الإلكترونية أو التخريب، وسيشمل التخريب خطوط أنابيب الغاز الرئيسية التي تمر عبر أوكرانيا، والتي تنقل حاليًا حوالي 13 في المئة من إجمالي واردات أوروبا، بالإضافة إلى الفرع الجنوبي من خط أنابيب النفط دروزبا، الذي يمر عبر بيلاروسيا إلى غرب أوكرانيا وإلى سلوفاكيا والتشيك والمجر.

والثاني هو أن روسيا قد تقطع الإمدادات عن عمد كجزء من عمليتها العسكرية السياسية، وسيؤثر ذلك أيضًا على الغاز القادم عبر بيلاروسيا إلى بولندا، وخط أنابيب نورد ستريم تحت بحر البلطيق مباشرة والمتجه إلى ألمانيا، ويعتبر خط أنابيب نورد ستريم 2 الجديد جاهزا من الناحية الفنية، والذي سيحل محل معظم الكميات التي تعبر من أوكرانيا، ولكن لم تتم الموافقة عليه قانونًيا من قبل ألمانيا لبدء العمليات.

والطريقة الثالثة هي من خلال فرض العقوبات، ردًا على العمل العسكري الروسي، حيث إنه من المرجح أن تقوم أوروبا والولايات المتحدة بحظر الاستثمار ومنع نقل التكنولوجيا، وحظر التعامل مع المؤسسات المالية الكبرى، وتحديد أفراد معينين مرتبطين بالكرملين وثرواتهم.

وقد قال نائب رئيس مجلس الشيوخ الروسي “نيكولاي جورافليف” إنه إذا انفصلت بلاده عن نظام الرسائل البنكية “سويفت” فإن المشترين “لن يستطيعوا استلام بضائعنا من النفط والغاز والمعادن” لكن أوروبا، وخاصة ألمانيا، ستكون حذرة من منع واردات الغاز التي تحتاجها، في حين أن الرئيس الأمريكي “جو بايدن” لا يريد أن يرى أسعار النفط ترتفع، لذلك من المرجح أن تقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها بإعفاء المعاملات المتعلقة بالطاقة من أي قيود على التعاملات البنكية مع البنوك الروسية.

وإذا ما اشتعلت الحرب، فسيكون من الصعب بالنسبة لألمانيا التخلي عن أوكرانيا من خلال إعطاء الضوء الأخضر لـ “نورد ستريم

2” لكن منتجات الطاقة تشكل 60 في المئة من الصادرات الروسية، وقد خضعت الفئات الأخرى بالفعل لقيود مختلفة، إن العقوبات التي تستثني مبيعات الطاقة لن تكون فعالة في ردع سلوك الكرملين، لكن تضمينها قد يسبب الكثير من الآلام لأوروبا.

وتعتمد تأثيرات مثل هذه السيناريوهات على كمية الغاز التي يتم قطعها، والمقدار الذي قد تعوضه روسيا بالتدفقات من خلال الطرق الأخرى، والكمية التي سيقبلها الأوروبيون، وما إذا كان الانقطاع يأتي بعد الشتاء، وكم الغاز المتبقي في الخزانات بحلول الربيع.

ومنذ انقطاع الغاز الروسي عبر أوكرانيا في عام 2009، وضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، نجح الاتحاد الأوروبي في إعادة تشكيل شبكات الغاز الخاصة به، حتى لا تتمكن موسكو من عزل الدول بشكل انتقائي، ويمكن تزويد أوكرانيا بالتدفق العكسي من الغرب، وقد قامت الأسواق المعزولة نسبيًا، مثل ليتوانيا وكرواتيا، ببناء محطات استيراد الغاز الطبيعي المسال، لجلب الوقود عن طريق الناقلات من المصدرين الرئيسيين مثل الولايات المتحدة، وقطر، والجزائر، ونيجيريا.

لكن لا تزال هناك نقاط ضعف في ذلك النظام، وأبرز نقاط الضعف تلك هي إسبانيا، التي لديها قدرة كبيرة على استيراد الغاز الطبيعي المسال، وتتلقى الغاز عبر خط أنابيب من الجزائر، لكن لديها خطوط إمداد محدودة مع بفرنسا وبقية القارة، ويمكن إعادة تشغيل حقل جرونينجن الرئيسي في هولندا في حالة الطوارئ، والذي تم إغلاقه إلى حد كبير بسبب الهزات.

وكانت الاستجابة الفورية من طرف الولايات المتحدة هي توفير إمدادات الغاز الطبيعي المسال الاحتياطية. وزادت قطر، التي كانت حتى وقت قريب أكبر مُصدر للوقود في العالم، من إنتاجها لمساعدة اليابان بعد حادثة فوكوشيما في عام 2011، ولكن تعمل قطر الآن والمصدرين الرئيسيين الآخرين، مثل أستراليا والولايات المتحدة، على أقصى تقدير للاستفادة من السوق الحالي المزدهر. وبافتراض أن الموردين سيكونون على استعداد لتجاهل التزاماتهم أو إعادة التفاوض على الالتزامات التعاقدية مع اليابان وكوريا الجنوبية والصين وغيرها، فيمكن لأوروبا إغراء الشحنات بتغيير مسارها بعيدًا عن شرق آسيا، ولكن فقط من خلال دفع أسعار أعلى بكثير.

ولن يؤثر عقد اتفاق نووي جديد مع إيران على سوق الغاز بشكل مباشر، لكنه سيطلق حوالي 1.3 إلى 1.5 مليون برميل من صادرات النفط يوميًا، مما سيساعد على تغطية أي انقطاع للإمدادات من روسيا، كما أنه سيجنب خطر حدوث أزمات متزامنة ومتفاقمة بشأن أوكرانيا والخليج العربي.

ومن شأن انخفاض أسعار النفط أن يخفف من الضغط السياسي على الرئيس “بايدن” ويجعل من فرض عقوبات أشد على روسيا أمراً مرحباً به. وإذا تعطلت صادرات النفط الروسية، فسيتعين على أعضاء أوبك + الذين ينسقون مستويات الإنتاج، لا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والعراق، أن يقرروا ما إذا كانوا سيزيدون الإنتاج لتعويض العجز.

وفي غضون عام أو عامين، ستصل إمدادات إضافية من الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، كما تعمل قطر وربما الإمارات العربية المتحدة أيضًا على توسيع قدراتهما، لكن تلك القدرات لن تكون جاهزة إلا بحلول عام 2026. وإذا استمرت المواجهة بين روسيا وأوكرانيا أو تفاقمت، فسوف يتعزز موقف الأوروبيين بمرور الوقت حيث يقومون بتحسين العزل المنزلي، وزيادة العمل على الطاقة المتجددة، وربما إحياء الطاقة النووية، والبدء في استخدام الهيدروجين للتخزين الموسمي والوقود الصناعي. ويمكن لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وخاصة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وعمان ومصر والمغرب وربما قطر، أن تصبح جميعها من الموردين الرئيسيين للطاقة النظيفة الجديدة.

ستخاطر روسيا بإلحاق أضرار جسيمة باقتصادها ومستقبل قطاع الطاقة الخاص بها للمدى البعيد، ولكن خلال الأشهر القليلة المقبلة، قد يشهد سوق الطاقة في أوروبا تقلبات واضطرابات كبيرة، كون الحدود الأوكرانية مع روسيا تشهد مرة أخرى صراع يعكس طموحات جيوسياسية.

 

 روبن إم ميلز هو الرئيس التنفيذي لشركة قمر للطاقة، ومؤلف كتاب “أسطورة أزمة النفط”.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: