تجمع عدد من الناس في وقت سابق من هذا الشهر في مدينة “ألماتي” وهي أكبر مدينة في كازاخستان، خارج مكتب المدعي العام للمطالبة بالإفراج عن ذويهم وأحبائهم المحتجزين منذ المظاهرات في شهر يناير الماضي، ولا يزال المئات رهن الاعتقال بتهم من بينها الإرهاب بعد أن أصبحت الاحتجاجات التي اندلعت بسبب ارتفاع أسعار الوقود بمثابة جس نبض للشارع حول النظام السياسي القائم في البلاد على مستوى الدولة.
ولكن حتى إذا تم الرد على الدعوات المطالبة بحرية المتظاهرين، فلن تستقر كازاخستان حتى يتم تلبية مطلبين إضافيين وهما: إجراء تحقيق كامل حول استجابة الحكومة التعسفية للاضطرابات، والوفاء بالوعد الخاص بعمل إصلاحات سياسية، ولسوء الحظ، ليس من المرجح تلبية أي من ذلك المطلبين.
وعادة ما يشير سكان كازاخستان إلى اضطرابات الشهر الماضي باسم “قاندي قنطار” أو “يناير الدامي” وقد انتشرت المظاهرات التي بدأت في 2 يناير في مدينة “زاناوزن” الغربية الصغيرة بسبب ارتفاع أسعار غاز البترول المسال، ثم أخذت الطابع السياسي. وهتف المتظاهرون في المدن في جميع أنحاء البلاد “على العجوز الرحيل!” في إشارة إلى الرئيس السابق نور سلطان نزارباييف، والنظام القائم على المحسوبية الذي بناه، وفي حين أنه ترك منصبه في عام 2019، إلا إن سلطان نزارباييف ظل وسيطًا مؤثرًا حتى وقت قريب.
ومن الظاهر أن الرد السياسي الفوري الذي تلى التظاهرات شرع في “اجتثاث ميراث نزارباي” من مفاصل الدولة، فبعد إعادة إرساء النظام بمساعدة منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا (سي أس تي أو) أجرى الرئيس “قاسم جومارت توكاييف” عدة تعيينات رئيسية في الحكومة، كما طرد أصهار نزارباييف من المناصب العليا في شركات الطاقة الحكومية، وعزل ابن أخ “نزارباييف” الذي كان يعمل نائبا لأجهزة أمن الدولة، وتم إنشاء صندوق اجتماعي خاص لسكان كازاخستان وطُلب من الطبقة الحاكمة المساهمة فيه.
وقال توكاييف أيضًا إن كازاخستان “لا تدين” لروسيا بأي شيء نظير إرسال قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي، ويعد ذلك الشأن مصدر قلق للكثير في كازاخستان الذين هم على دراية بالتاريخ السوفيتي، ولكنه أشار إلى إمكانية إنشاء تكامل اقتصادي أوراسي أوثق. وخلال زيارته الأخيرة لموسكو، أشار توكاييف ضمنيًا إلى إمكانية تعزيز التعاون الأمني مع روسيا وتوصل إلى اتفاق لتوسيع شبكة فروع الجامعات الروسية الرائدة في كازاخستان.
ويتفق العديد من الخبراء على أن التغييرات السياسية التي أجراها توكاييف هي تغييرات سطحية وليست بالعمق الكافي الذي يلبي طموح الشعب الكازاخستاني، قد يكون “الرجل العجوز” قد رحل، لكن النظام الذي بناه باق. وفي مقابلة أجريت معه مؤخرًا، أقر توكاييف بهذا الأمر عندما قال إنه ليس من “أسلوبه” أن يتعرض للتخويف من قبل الجمهور لتغيير الحكومة بشكل جذري.
والأمر الأكثر إثارة للقلق هو معاملة توكاييف للمحتجين، حيث تقول الرواية الرسمية للحكومة أن من بين المحتجين إرهابيون أو قطاع طرق مسلحون أو بعض الجماعات الأخرى التي لم يتم التعرف عليها بعد، بينما أشارت التقارير الإعلامية إلى أن المظاهرات السلمية شملت حشودًا ومجرمين، وعليه زعم الرئيس توكاييف، من دون توفر أدلة قوية، إلى أن 20 ألف “قاطع طريق” قد هاجموا ” ألماتي”. بينما عانت المدينة من بعض أعمال العنف والتخريب، إلا أن العديد من الخبراء يعتقدون أن رد الفعل المفرط من قبل قوات الأمن الكازاخستانية لم يكن متناسبا مع حجم التهديد.
ووصل عدد القتلى الرسمي إلى 227 قتيلاً، منهم 149 في مدينة “ألماتي” وكان من ضمن القتلى 19 فردا من قوات الأمن. وفي حين أن سبب وفاة معظم المتظاهرين لم يتم التحقق منه بعد، لكن شهود عيان قالوا أن شرطة مكافحة الشغب وأفراد من الجيش أطلقوا النار على المتظاهرين السلميين، وأفادت “هيومن رايتس ووتش” عن وجود “أدلة وفيرة” تشير إلى أن “قوات الأمن أطلقت النار دون أي مبرر واضح وقتلت ما لا يقل عن 10 أشخاص” وبعد نشر تلك التقارير، نوهت وزارة الخارجية الكازاخستانية في محادثات مع “هيومن رايتس ووتش” إلى أن السلطات “مستعدة لبحث كل حالة تهم مواطني [كازاخستان] والمجتمع الدولي”.
وأمر توكاييف “بإطلاق النار المباشر لغرض القتل” والذي أكده خلال خطاب متلفز في 7 يناير، وكان لتلك الأوامر أثر كبير على الكازاخستانيين الذين فقدوا أحباءهم في تلك الأحداث، ولأن الإنترنت أُغلق أثناء الاضطرابات، فإن بعض الأشخاص الذين لقوا حتفهم لم يكونوا على علم حتى بوجود مثل ذلك الأمر. ولا شك أن بعض من فقد حياته في خضم تلك الاضطرابات قد غامروا بالنزول إلى الشوارع بدافع الفضول، وتواصل السلطات الادعاء بأن قوات الأمن لم تطلق النار على المتظاهرين السلميين.
ومن الواضح أن الكثير من الناس قد علقوا في شباك الحكومة، وأُعتقل الآلاف بعد الاضطرابات. وأفاد محامون حقوقيون ومنظمات حقوقية مستقلة ومن أُطلق سراحهم مؤخرًا من السجون بانتشار التعذيب والإيذاء الجسدي والنفسي في مراكز الشرطة، وحتى تاريخ 16 فبراير كانت السلطات تحقق في 181 حالة تتعلق بالإرهاب وأعمال الشغب الجماعية، لكن أقارب بعض الضحايا أفادوا بأن تلك “الاعترافات” انتُزعت تحت التعذيب. واقترح توكاييف في مقابلة أن هناك الكثير من “المبالغة والهستيريا” بشأن قضية التعذيب، كما يجري التحقيق في حوالي 27 قضية خيانة وطنية وإساءة استخدام السلطة ومحاولات الاستيلاء على السلطة.
وبالنظر إلى تلك التهم، فقد دعا المراقبون الدوليون إلى إجراء تحقيق في رد فعل الحكومة تجاه التظاهرات، ولكن الرئيس “توكاييف” رفض الفكرة، وأصر على أن كازاخستان يمكن أن “تقوم بذلك بمفردها” كما أنه انتقد قرار الاتحاد الأوروبي الأخير الذي دعا إلى فرض عقوبات على الأفراد الذين ثبت انتهاكهم لحقوق الإنسان، ووصف ذلك القرار بـ “المتحيز والسابق لأوانه”.
وتوضح تصرفات توكاييف في الأسابيع التي تلت “يناير الدامي” حقيقة مؤسفة، وهي أن الاحتجاجات لم تفعل شيئًا يذكر لتغيير الوضع القائم في البلاد، والأسوأ من ذلك، هو أن البلاد قد تصبح أكثر استبدادية من ذي قبل، حيث يعمل توكاييف على تعزيز سلطته ويبدو أنه يتعاون بشكل أوثق مع روسيا، وبعبارة أخرى، من غير المرجح أن تظهر الممارسات الديمقراطية التي نادى بها الكثيرون الشهر الماضي في أي وقت قريب.
لكن لن يُخمد صوت الشارع الكازاخستاني، وبغض النظر عما تخطط له السلطات، لن ينفك الشعب الكازاخستاني محاولاً تشكيل حكومة تعكس هويته وتمثل كافة أطيافه.
إيجيريم توليوخانوفا هي صحفية مستقلة من كازاخستان، وباحثة في حقوق الإنسان وحرية الصحافة في آسيا الوسطى، ومحررة رقمية سابقة في خدمة راديو أوروبا الحرة / راديو ليبرتي الكازاخستانية