هذه نصيحة سديدة لأي شخص يحاول خوض غمار هوس الاستثمار بالمضاربة المشابه لفقاعة شركة البحر الجنوبي، والذي لم نشهد مثله منذ انفجار تلك الفقاعة في القرن الثامن عشر، ما أسفر عن تدمير آلاف المستثمرين ماليًّا في بريطانيا أثناء العصر الجورجي.
لا تفعل ذلك!
إنَّ الاستثمار فيما يُسمَى الرموز غير القابلة للاستبدال (NFT) لا بأس به شريطة أن تكون لديك أموالًا غير محدودة ولا تبالي بأي خسائر فادحة قد تتكبدها. أما إذا كنت تفكر في سحب كل معاشك التقاعدي أو مدخراتك التي تخصصها لتعليم أبنائك الجامعي طمعًا في الثراء السريع … فرجاءً أعد التفكير.
تبدو فكرة التداول في الرموز غير القابلة للاستبدال جذابة للغاية، لا سيما في عصر يلهث فيه الناس وراء الثراء السريع دون أن يفعلوا شيئًا في الواقع. والرموز غير القابلة للاستبدال هي أي عنصر رقمي يمكن التحقق من ملكيته ومنشأه على منصة سلسلة الكُتل (البلوكشين) التي من المفترض أنها سجل رقمي غير قابل للإتلاف أو الاختراق تُسجَل فيه المعاملات.
فهل سمع أحد من قبل عن تعرض كمبيوتر للاختراق؟!
«قابل للاستبدال» مصطلح يصف أي نوع من الأصول يمكن تبديله بعنصر مطابق له، مثل ورقة من فئة الدولار أو أسهم أو أوراق مالية. أما تعبير «غير قابل للاستبدال»، فيصف شيئًا فريدًا، مثل بطاقة كرة تُشترَى للاقتناء، أو قطعة أرض، أو ألماسة، أو — على ما يبدو — رمز غير قابل للاستبدال (NFT).
ولكن بينما يمكن الاحتفاظ ببطاقة كرة القدم وتبديلها في الملعب ببطاقة أخرى، لا وجود في الواقع للرموز غير القابلة للاستبدال، باستثناء في العالم الرقمي.
والهوس بالرموز غير القابلة للاستبدال لا يعرف حدودًا، كما يتضح من إطلاق Tilia.Earth، وهو مشروع ناشئ مقره جنيف يُقدِّم «عقارات افتراضية في الميتافيرس» مدعومةً بالرموز غير القابلة للاستبدال. ففي الشرق الأوسط، تعرض الشركة «عقارات» في إسرائيل والسعودية والإمارات حيث تتضمن المواقع المدرجة البالغ عددها 300 موقعًا تقريبًا قطعة أرض على جزيرة نخلة الجميرة مقابل 602.48 جنيهًا إسترلينيًّا («شاملًا الضريبة»).
المدهش في الأمر أن ثمة أشخاص حقيقيين يدفعون أموالًا حقيقية مقابل هذه الأراضي الخيالية كليًّا، أملًا على الأرجح في أن يؤدي تزايد الهوس بالرموز غير القابلة للاستبدال إلى تحوّلهم إلى أثرياء سريعًا، كما حدث مع المستثمرين في ظاهرة رموز CryptoPunks التي خرجت عن السيطرة.
رموز CryptoPunks هي شخصيات كرتونية مصممة بالكمبيوتر منخفضة في عدد وحدات البكسل وتشبه أكثر الصور الرمزية (الأفاتار) بدائيةً التي ترجع إلى بداية عهد ألعاب الكمبيوتر، الأمر الذي أدى في الواقع إلى حالة الجنون الحالية بالرموز غير القابلة للاستبدال.
CryptoPunks مجموعة مكوَّنة من 10000 «شخصية فريدة تُشترَى للاقتناء ولها إثبات ملكية مُخزَّن على سلسلة كتل إيثريوم»، وقد اُبتكِرت كمزحة ما بعد حداثية للمهووسين بالتكنولوجيا في عام 2017 على يدِّ المبرمجين المؤسسين لشركة «لارفا لابز». التكنولوجية المبتكرة.
هذه الصور لا قيمة لها في حدِّ ذاتها، أو بأحرى كانت كذلك. فعند طرحها في عام 2017، عُرِضت كل شخصية من تلك الشخصيات البالغ عددها 10000 مجانًا لأي شخص يملك محفظة إيثريوم (للمنصة، بالطبع، عملتها الرقمية الخاصة بها وهي الإيثر أو ETH).
أما الآن، فهي ليست مجانية بالتأكيد.
في مايو الماضي، بيعت مجموعة مكوّنة من تسعة CryptoPunks في دار مزادات كريستيز مقابل 16.9 مليون دولار. وللإثيريوم السوق الخاص بها حيث يمكن دفع المال بكميات هائلة مقابل رموز CryptoPunks المعروضة للبيع. وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، كان أرخص هذه الرموز معروضًا مقابل 195086.28 دولارًا. وأغلى رمز CryptoPunk حتى الآن هو الرمز رقم 5822، وهو أحد الرموز التسعة المسماة Alien (الفضائيون)؛إذ بيع في 12 فبراير مقابل 23.7 مليون دولار.
هذا وتُعَد شركة «يوجا لابز»، التي ابتكرت رموز Bored Ape Yacht Club (نادي يخت القرود الضجرة) غير القابلة للاستبدال التي تنتج لوغاريتميًّا، إحدى الجهات الرائدة في إنتاج هذه الرموز؛ إذ باعت 10000 من رموز القرود الرقمية هذه على سلسلة كتل إيثريوم في أبريل 2021 مقابل 190 دولارًا تقريبًا لكل رمز.
بلغ إجمالي عمليات إعادة البيع منذ ذلك الحين ما يزيد عن مليار دولار. وبالطبع اتبّع المشاهير هذه الصيحة الجديدة؛ فاشترى كلٌ من جاستين بيبر وإمينيم وسيرينا ويليامز رموز Bored Ape. ودفع بيبر 1.3 مليون دولار مقابل رمزه، بينما استخدام إمينيم رمزه صورةً رمزية (أفاتر) له على تويتر… يا له من استخدام حكيم للأموال!
ولكن ما الذي تحصل عليه عندما تشتري رمزًا غير قابل للاستبدال؟ لا شيء. ربما ليس بالضبط — فأنت تحصل على مفتاح إلى سلسلة كتل، والتي يتيح لك الدخول إليها تأكيد امتلاكك بالفعل للرمز غير القابل للاستبدال الذي اشتريته.
عندما تدفع ثمن ساعة رولكس نادرة أو سيارة بوجاتي لا فواتور نوار محدودة الإصدار أو لوحة لفنان عصر النهضة رافاييل، فإن لديك شيئًا واضحًا للغاية يثبت ما اشتريته، سواء على رسغك أو وأنت تقود سيارتك أو على حائطك.
أما الرمز غير القابل للاستبدال، فيمكن لأي شخص عرضه على الإنترنت — ويمكن نسخه ولصقه لعدد لا نهائي من المرات، شأنه شأن أي صورة رقمية. وعندما باعت دار كريستيز أول رمز غير قابل للاسترداد لها على الإطلاق في مارس من العام الماضي مقابل 69.34 مليون دولار، غردت بصورة على تويتر لما وصفته — دون أي سخرية واضحة — بأنه «عمل فريد في تاريخ الفن الرقمي». أما الشركة التي حصدت ذلك الربح غير المتوقع البالغ 69.34 مليون دولار، فقد بلغت من الجرأة ما جعلها تقارن الرموز غير القابلة للاستبدال بالإصدارات الأصلية من الأعمال الفنية العظيمة، وأي نسخة منها بالملصقات التي يمكن شراؤها من محلات التذكارات في المتاحف.
الاستثناء الوحيد، بالطبع، هو أنه يمكنك تعليق الموناليزا الأصلية على حائطك، بينما لا يوجد أي فرق في الواقع بين الرمز غير القابل للاستبدال «الأصلي» وأي نسخة يمكن لأي شخص أن يختار صنعها منه.
الحقيقة أن صرح الرموز غير القابلة للاستبدال بأكمله قائم على رمال رقمية؛ إنه «ملابس الإمبراطور الجديدة» في العصر الرقمي. فلا تكمن «قيمة» الرمز غير القابل للاستبدال في الفن نفسه، الذي يمكن نسخه لعدد لا نهائي من المرات، وإنما في البيانات الوصفية المُضمَّنة في سلسلة الكتل.
حظًا سعيدًا في تعليق ذلك على حائطك.
يبدو أن لمعظم الرموز غير القابلة للاستبدال بضع الميزات التعويضية بوصفها فنًا، ولكن ذلك ليس بالطبع سبب اهتمام الناس بها. فقد يشتري المشاهير الأثرياء هذه الرموز بوصفها رموزًا رقمية للمكانة الاجتماعية، ولكن سبب وجودها الأساسي هو التداول وجني الأموال — وهنا تكمن مقومات تكوّن فقاعة شركة البحر الجنوبي التكنولوجية.
إنَّ شراء الرموز غير القابلة للاستبدال أمر مكلف حاليًا، وكلما ازدادت تكلفته، زاد احتمال جذب كل مُستجَد في اللعبة الكبيرة للاستيلاء على كل إيثر يملكه.
ها قد تم تحذيرك!
جوناثان جورنال صحفي بريطاني عمل في السابق مع صحيفة تايمز، وكان يعيش ويعمل في الشرق الأوسط، وهو مقيم الآن في المملكة المتحدة.