توفي جدي من طرف الأم ” هربرت جونسون” فجأة على السرير بسبب سكتة قلبية في 24 مايو 1948، وكان عمره 50 عاما فقط.
وكان جدي الذي كانت تسميه العائلة “بيرت” رجلا شديد المراس.
وأصيب جدي بجروح خلال الحرب العالمية الأولى عدة مرات، لكنه نجا بطريقة ما في أربع سنوات من القتال في فرنسا، وقتلت القنابل التي أمطرت على أرصفة شرق لندن حيث كان يعمل خلال الحرب العالمية الثانية، العشرات من زملائه في العمل لكنه نجى من ذلك الحادث.
لكن جدي “بيرت” الذي ولد في عام 1898، لم يستطع الهروب من المصير المكتوب في جينات كل طفل ولد في المملكة المتحدة في بداية القرن العشرين، وهو متوسط العمر المتوقع المحدود لمن يبلغ من العمر حوالي 48 عاما.
ومن سخرية القدر وفاة جدي قبل أكثر من شهر بقليل من تأسيس الخدمة الصحية الوطنية في المملكة المتحدة، والتي تأسست في 5 يوليو 1948.
وبعد خمسة وسبعين عاما من تأسيس ذلك النظام الصحي، وبفضل توفير المملكة المتحدة للرعاية الصحية الشاملة “من المهد إلى اللحد” مجانا للجميع ومنذ الولادة، يمكن للصبي المولود في المملكة المتحدة اليوم أن يعيش ليرى عيد ميلاده الـ 78.
وتوفير تلك الرعاية الشاملة يمثل مشكلة كبيرة، كما هو واضح من الأزمة الشاملة التي تهدد حاليا بإرباك الخدمة الصحية الوطنية في المملكة المتحدة (إن إتش سي) .
وبما أن البريطانيين يعيشون حياة أطول، ولكن ليس بالضرورة حياة مفعمة بالصحة، فإن العبء على هيئة الخدمات الصحية الوطنية (إن إتش سي) يزداد أكثر من أي وقت مضى، حتى مع تزايد نسبة العاملين الذين يدفعون الضرائب من السكان.
ونتيجة لذلك، تستغرق سيارات الإسعاف ساعات للاستجابة حتى لأكثر الحالات إلحاحا، والجرحى والمصابين بأمراض خطيرة والملقون على الأسرة من دون اهتمام، وأحيانا يموتون في ممرات المستشفيات أو داخل سيارات الإسعاف المكدسة خارج أقسام الطوارئ المكتظة.
وازدادت أوقات الانتظار لكل نوع من العمليات أكثر من أي وقت مضى ، ويموت المرضى لأن السرطانات ومشاكل القلب لا يتم تشخيصها.
والممرضات الاتي تم التصفيق لهن مؤخرا على عتبات المنازل من قبل الجمهور والسياسيين لدورهم في المعركة ضد جائحة كوفيد، يضربون عن العمل الآن من أجل أجر معيشي أفضل ومستويات آمنة من الموظفين.
ويعاني الأطباء أيضا وموظفو الإسعاف من نقص في الموظفين والعمل فوق طاقتهم، حتى مع ارتفاع الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية من 121 مليار جنيه إسترليني في الفترة 2008-2009 إلى مستوى قياسي قدره 182 مليار جنيه إسترليني في ميزانية الفترة 2023-2024 وهو مبلغ أكبر من الناتج المحلي الإجمالي السنوي لدولة قطر.
ومن الواضح للجميع أن شيئا ما يجب أن يتغير لكن كان “إن إتش سي” مسرح للمعارك السياسية، فأولئك في جناح اليسار السياسي ، يعتبرونه بقرة مقدسة، يرفضون أي تغيير ويطالبون الحكومة ببساطة بإيجاد المزيد من المال.
ومن ناحية أخرى، فإن أنصار السوق الحرة، الذين يسيل لعابهم من فكرة الربح السريع بفضل المكاسب غير المتوقعة في القطاع الخاص، يطالبون بخصخصة الخدمات الصحية الوطنية (إن إتش سي) ويتربصون على استعداد للانقضاض، وهم العديد من شركات الرعاية الصحية والتأمين التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها والتي تحرص على البدء في فرض رسوم على البريطانيين مقابل الخدمات التي كانت مجانية على مدى فترة ثلاثة أرباع القرن الماضي.
إن نظام الرعاية الصحية المعقد للغاية في الولايات المتحدة، والذي يمزج بين القطاعين العام والخاص، يشكل “طعنة” في الاتجاه الصحيح، ولكنه يخذل العديد من الناس إلى الحد الذي يجعل من الواضح أنه ليس نموذجا يمكن أو ينبغي تبنيه من دون ضوابط.
ومع ذلك، فهناك أنظمة أخرى من جميع أنحاء العالم والتي نادرا ما تظهر في نقاشات “إن إتش سي” الغاضبة، والتي تمزج بين توفير الرعاية الصحية العامة والخاصة.
وعادة ما تحتل أنظمة دول مثل سنغافورة والدنمارك قمة تصنيفات الرعاية الصحية العالمية، بينما تلعب الإمارات العربية المتحدة دور ريادي في الشرق الأوسط.
بالطبع فإن الإمارات ليست هي المملكة المتحدة، فالغالبية العظمى من سكانها هم من العمال المغتربين.
ولكن إصرار الحكومة الإماراتية منذ الأيام الأولى لازدهار الدولة على أن جميع الشركات يجب أن توفر لكل موظف تأمينا صحيا مهد الطريق لأحدث أنظمة الرعاية الصحية وأكثرها كفاءة في العالم، والذي جذب بعضا من أفضل الأطباء في العالم.
ويتم توفير الرعاية الصحية مجانا في المستشفيات والعيادات الممولة من القطاع العام للإماراتيين، الذين لا يمثلون سوى جزء صغير من سكان دولة الإمارات العربية المتحدة، وهذا شيء تستطيع الحكومة تمويله بسهولة، لأن عبء الرعاية الصحية للغالبية العظمى من السكان وهم المغتربين، تتحمله الشركات التي توظفهم.
ومع توظيف شيء من الخيال يمكن تكييف هذا النظام وتبنيه في المملكة المتحدة، ربما مع توفير الرعاية الصحية المجانية فقط للأطفال وأولئك الذين لم يعودوا في سن العمل، وفي الحالة الأخيرة ربما فقط بعد معاينة الحالة المادية.
وبموجب القانون، يمكن أن تأتي كل وظيفة مع تأمين رعاية صحية خاص، ليس كميزة لحفنة من أصحاب الدخل المرتفع، كما هو الحال الآن، ولكن للجميع.
وبطبيعة الحال، سوف يشتكي أصحاب العمل وخاصة أولئك الذين يعرضون حاليا أجورا منخفضة بشكل يرثى له للموظفين بناء على ما يسمى بعقود ساعات الصفر، ولكن يمكن تعديل النظام الضريبي القديم الحالي للحد من التأثير.
ولكن لكي تتبنى المملكة المتحدة نموذج الرعاية الصحية الإماراتي، فإن ذلك يتطلب شجاعة سياسية هائلة، وشيئا أكثر من مجرد تعديل في الأنظمة القديمة.
فعلى مدى عقود وإلى الآن، باع المستشارون الغربيون أفضل الممارسات الغربية في كل شيء من التعليم إلى الهندسة إلى دول الخليج، لكن الزمن تغير، وربما قد حان الوقت لعكس اتجاه الاستشارات والأفكار الإبداعية.
إذا تمكنت الحكومات الغربية من تجاهل الفكرة المتأصلة التي عفا عليها الزمن والتي تزعم أن الأفكار الجيدة لا تتدفق إلا من الغرب إلى الشرق، فقد تكتشف أن تجاهل تلك الفكرة قد يكون مفيدا لصحة شعوبها ولخزائنها أيضا.
جوناثان غورنال صحفي بريطاني، عمل سابقا مع صحيفة التايمز، وعاش وعمل في الشرق الأوسط ويقيم الآن في المملكة المتحدة.