من الناحية الدبلوماسية، كان المشهد صادمًا: ممثلون سعوديون وإيرانيون يبتسمون ويتصافحون في عاصمة أجنبية معلنين استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد مقاطعة دامت سبع سنوات. لكن وزير الخارجية الذي يجلس بينهم بفخر بعد أن جمع بينهم لم يكن سياسيًا أوروبيًا أو أمريكيًا، وإنما الوزير الصيني وانج يي. لم تكن هناك حاجة للكلمات؛ فقد دوت الرسالة من واشنطن إلى بروكسل، وهي أن الدبلوماسية الصينية قد وصلت إلى الشرق الأوسط.

كانت هذه المرة الثانية التي تلعب فيها الصين دور الوسيط خلال بضعة أسابيع، وذلك بعد فترة وجيزة من اقتراحها خطة سلام للحرب في أوكرانيا. لكن هذه المرة كان دورها أكثر أهمية بكثير. فهذا الاستعراض للدبلوماسية الصينية في الشرق الأوسط لم يكن الهدف منه إعادة العلاقات بين السعودية وإيران فحسب، وإنما تعلق أيضًا بتنحية أمريكا جانبًا.

ورغم أنه ما زال من السابق لأوانه رؤية نتائج هذا الاتفاق، فإنه من الممكن أن يغير بعضًا من أخطر الصراعات في المنطقة، بدءًا من اليمن مرورًا بسوريا وحتى لبنان. وفي الوقت الحالي، الذي لم تتكشف فيه بعد تفاصيل هذا الوفاق السياسي، يُعتبَر مَن توسط دبلوماسيًّا في الاتفاق الإيراني السعودي أهم من الاتفاق نفسه.

لا شك أن هذا الاتفاق يعود بالنفع على الجميع. فتبدو إيران أقل عزلة بكثير مما كانت عليه قبل عام واحد. وذلك لأن الحرب في أوكرانيا أدت إلى توثيق علاقة إيران مع روسيا لدرجة أن طائرات إيرانية بدون طيار تُختبَر الآن في تلك الحرب. وثمة تقارير تفيد بأن روسيا تمنح إيران أسلحة أمريكية كانت قد استولت عليها من الجنود الأوكرانيين (لكي تجري طهران هندسة عكسية لها). والأهم من ذلك أن روسيا ستزود إيران بطائرات سوخوي المقاتلة المتطورة. وقد استأنفت طهران الآن علاقاتها مع خصمها الإقليمي.

أما فيما يخص المملكة العربية السعودية، فالمشهد يحمل القدر نفسه من الأهمية تقريبًا التي يحملها للصين. فقد حرص ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الأشهر الأخيرة على إيضاح قطع علاقات السعودية مع الولايات المتحدة. وكانت زيارة الرئيس جو بايدن إلى جدة في الصيف الماضي تهدف إلى إعادة العلاقات بين البلدين، لكنها سرعان ما تدهورت في غضون أشهر عندما دفعت السعودية وروسيا منظمة الأوبك بلس إلى تقليل إنتاج النفط. فأثار ذلك غضب واشنطن، وأصدر بايدن تهديدًا عامًا نادرًا، متعهّدًا بأن يكون لذلك “عواقب” على الرياض. وهذه العواقب إما أنها لم تحدث أو لم يُعلَن عنها حتى الآن.

لذا، فإن هذا الاتفاق بين السعودية وإيران ستراقبه عن كثب واشنطن التي ستدرك أنه رسالة مفادها أن السعودية مستعدة للاستغناء عن العيش في كنف أمريكا. وليس من قبيل المصادفة بالتأكيد أنه قبل ساعات فقط من إعلان اتفاق الصين، “تسرب” خبر يوضح ثمن تطبيع الرياض لعلاقاتها مع إسرائيل. وهذا الثمن (برنامج نووي مدني للمملكة وضمانات أمنية من الولايات المتحدة) باهظ، ورسالة الرياض واضحة، وهي أن “لديها أصدقاء آخرين”.

لكن مَن يتابع أخبار الصين أكثر بكثير من مجرد بلد واحد. فكل دول الجنوب في العالم سترى في الرسالة التي ترسلها بكين أن الصين قادرة على فعل ما تريده، حتى في منطقة تعتبر أمريكا نفسها فيها القوة الأجنبية الأبرز. فهل ستصدق هذه الدول أن هذه الرسالة ستختلف، وقد أتت بعد فترة وجيزة من سعي بكين للعب دور صانع السلام “المسؤول” في حرب أصبحت معركة بالوكالة بين الغرب وروسيا؟ نحن نتوقع أن نرى الدبلوماسية الصينية تتجلى بوضوح في قضايا غير متوقعة، مثل الصراعات الإفريقية.

رغم ذلك، فليس من الواضح في الوقت الحالي ما ستبدو عليه هذه الدبلوماسية العالمية الجديدة ذات الطابع الصيني. فالأهم في اقتراح السلام الأوكراني، شأنه شأن الاتفاق الإيراني السعودي، هو الوسيط الدبلوماسي وليس الاقتراح نفسه. هذا لا يعني أنه ليس صادمًا رؤية الصين تتوسط في اتفاق سلام شرق أوسطي تاريخي، ولكن لا يزال من غير الواضح ما إذا كان هذا الاتفاق سيقلب الطريقة التي تُدار بها السياسة في المنطقة رأسًا على عقب.

الأرجح أنه سيفتح الباب أمام المزيد من التدخل الأجنبي في المنطقة، بدلًا من أن يؤدي إلى إحلال الصين محل الولايات المتحدة بشكل كامل، الأمر الذي ربما لا تريده معظم دول الشرق الأوسط، ومن شبه المؤكد أن بكين لا تريده أيضًا.

لكن ما يوضحه هذا الاتفاق هو التحول التدريجي في سياسة المنطقة، وهو التحول الذي تبدو الولايات المتحدة عاجزة عن مقاومته أحيانًا.

يشبه هذا التغير في الشرق الأوسط ما يحدث في بحر الصين الجنوبي، حيث أنه رغم كل الصخب الذي تثيره واشنطن بشأن حرية الملاحة (بل وحتى التغييرات السياسية الكبرى في هذا الشأن، مثل صفقة الغواصة النووية مع أستراليا التي أُعلِن عنها هذا الأسبوع)، يبدو أن الولايات المتحدة تفتقر ببساطة إلى الإرادة — وليس القدرة — لوقف التوسع والتعدي الصيني. فربما تنفذ الولايات المتحدة بعض التدريبات العسكرية مع دول آسيوية أو يزور سياسي أمريكي تايوان، ولكن مسار الأحداث يصب بوجه عام في مصلحة للصين.

ينطبق الأمر نفسه على دور أمريكا في الشرق الأوسط. فمسار الأحداث بوجه عام فيما يتعلق برحيل هذه القوة العظمى لم يتغير حقًا؛ إذ أتاحت الحرب الأهلية السورية لروسيا فرصة العودة كقوة عسكرية، ومهد الصراع الإيراني السعودي للصين الطريق لتولي دور الوسيط الدبلوماسي، لكن مسار الأحداث واضح؛ فهو لا يتجه نحو الصين، وإنما يبتعد عن أمريكا. وسيتعين على الشرق الأوسط الاعتياد على تعدد الأقطاب في المنطقة؛ فهذا الواقع يطرق الأبواب بالفعل. ويومًا ما عن قريب، قد يتعين على العالم أن يعتاد على ذلك أيضًا.

 

يقوم فيصل اليافعي حاليًا بتأليف كتاب عن الشرق الأوسط، وهو معلق دائم على شبكات الأخبار التلفزيونية الدولية، وقد عمل في قنوات إخبارية مثل الجارديان وبي بي سي، وقدم تقارير عن الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا.

 تويتر: @FaisalAlYafai

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: