تدفع الاختلالات الجوية المقلقة فضلا عن عقود من سوء إدارة المياه تركيا إلى كارثة مائية يمكن تجنبها، وتشير الأرقام إلى ذلك بكل وضوح.

 

وقد شهدت تركيا في عام 2022 أدفئ شهر ديسمبر منذ أكثر من نصف قرن، حيث بلغ متوسط درجة الحرارة 8 درجات مئوية أي ما يساوي 3.2 درجة فوق متوسط الأرقام السابقة. وتفاقمت موجة الحر بسبب انخفاض هطول الأمطار إلى مستويات قياسية، وكان إجمالي هطول الأمطار على مدى الأشهر الثلاثة الماضية أقل بنسبة 40 في المائة مما كان عليه قبل ثلاثة عقود، وأقل بنسبة 30 في المائة عن عام 2021.

 

ولا تنحصر ظاهر التغيرات المناخية في تركيا وحدها، حيث شهدت أوروبا في الأشهر الأولى من الشتاء تساقط القليل من الثلوج وتوقفت مصاعد التزلج عن الدوران وألغيت العطلات. وأدت درجات الحرارة القصوى إلى إفلاس المزارعين في الأرجنتين، وإشعال حرائق الغابات في الولايات المتحدة، وتفاقم عدم المساواة بين الجنسين في جميع أنحاء العالم.

 

ولكن في حالة تركيا، ساهم الافتقار إلى التدابير الوقائية في خلق ظروف غير طبيعية أُثرت على الملايين في جميع أنحاء البلاد.

 

وتعاني تركيا من ضغوط شح المياه وذلك وفقا لـ (ستيت هدرلوك وركس) حيث انخفضت الكمية السنوية للمياه الصالحة للاستخدام للفرد في تركيا من 1652 متر مكعب (م 3) في عام 2000 إلى 1346 متر مكعب في عام 2020. ومؤشر مثل (الكنمارك) وهو مقياس يستخدم على نطاق واسع لقياس ندرة المياه، يصف البلدان التي يقل نصيب الفرد فيها عن 1700 متر مكعب بأنها “تحت ضغوط مائية”.

 

ومن المتوقع أن ينخفض توافر المياه للشخص الواحد في تركيا أكثر هذا العام، إلى 1,200 م3، وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة تقدر أن 60 في المائة من مساحة الأراضي في تركيا معرضة للتصحر.

 

وقد أعلن الصندوق العالمي للحياة البرية بالفعل أن أكبر مدن تركيا مثل إزمير وإسطنبول وأنقرة تعاني من شح المياه، وقبل عامين، انخفضت الخزانات التي تزود إسطنبول بالمياه إلى أقل من 25 في المئة، وهو أدنى مستوى على مدى 15 عاما. وأدى ذلك إلى دعوة إدارة المياه والصرف الصحي في اسطنبول (أي أس كي أي) إلى الحفاظ على المياه بشكل طوعي. حيث قال ليفنت كورناز، وهو خبير المناخ في جامعة بوغازيتشي، إن ظروف المياه سيئة للغاية لدرجة أن سكان إسطنبول قد يحتاجون في النهاية إلى وضع حد أقصى لاستهلاكهم للمياه.

 

ولم يعد التخفيف من التغيرات المناخية كافيا، بل يجب علينا أيضا التكيف مع شح المياه، ولكن من المؤسف أن قادة تركيا لم يبدأوا في حمل المخاوف البيئية على محمل الجد إلا مؤخرا. على سبيل المثال، صدقت البلاد على اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015 قبل عامين فقط واستمر أداؤها ضعيفا في تحقيق الأهداف المناخية، ويضع مؤشر أداء تغير المناخ لعام 2023، الذي يقيس التقدم المناخي في 63 دولة في أوروبا وحول العالم، تركيا في المرتبة 47 – بعد مصر والهند وبيلاروسيا.

 

ببساطة، ساهم الافتقار إلى التدابير الوقائية في ظروف الجفاف في تركيا.

 

وتقلصت 60 في المائة من بحيرات البلاد البالغ عددها 320 بحيرة أو جفت تماما في السنوات الـ 20 الماضية، وقد أدى التوسع الحضري الجامح، والأنشطة التجارية، والأخطاء الزراعية إلى تفاقم الأزمة.

 

واحدة الضحايا هي بحيرة مرمرة في غرب البلاد،  فبين عامي 2011 و 2021 ، انخفض منسوب المياه في  البحيرة بنسبة 98 في المائة. وكانت بحيرة مرمرة ذات يوم ملاذا للطيور وكانت موطنا لـ 101 نوعا مختلفا من الحيوانات، وهي الآن أرض جافة و، ولم يفعل المسؤولون الحكوميون شيئا تقريبا لعكس الضرر. وردا على ذلك، رفعت مجموعة من الصيادين المحليين دعوى قضائية ضد وزارة الزراعة والغابات في أول دعوى قضائية تتعلق بالتغيرات المناخية في تركيا.

 

قال جيم ألتيبارماك، وهو محام يمثل المجموعة، إن السدود عند المنبع والإفراط في استخدامها من قبل مزارع المنطقة تسبب في اختفاء البحيرة، ولكن على الرغم من المناشدات المتكررة للتدخل، فإن مسؤولي المياه المحليين “تجاهلوا تلك المناشدات ومقترحات الحلول باستمرار».

 

وأحد تلك الحلول هي الإصلاح الزراعي، فحاليا، يتم استخدام 73 في المئة من إجمالي إمدادات المياه في تركيا للري، ويستخدم المزارعون بشكل أساسي الري السطحي، مما يؤدي إلى الجريان السطحي ويستنزف المياه الجوفية بمعدل مرتفع. ومن خلال التحول إلى الري بالتنقيط ، يمكن للمزارعين خفض استخدام المياه إلى النصف، مما يوفر للبلاد حوالي 38 مليار متر مكعب سنويا.

 

وعلى الرغم من أن تركيا قد قامت بتحديث لوائحها الزراعية لتلبية معايير الاتحاد الأوروبي، إلا أن معظم المزارعين يواصلون إهدار المياه، وقانون إدارة المياه الجديد في البلاد، والذي يتضمن لوائح بشأن السدود والبرك ومحطات الطاقة الكهرومائية، يتجاهل الري الزراعي تماما.

 

ولا يثير ذلك الغرابة، حيث أطلقت الحكومة مرارا وتكرارا مشاريع بيئية ثم تخلت عن تلك المشاريع سريعا. ومن بين أكثرها فظاعة مبادرة “1,071 بركة في 1,000 يوم“، وهي خطة عام 2016 لبناء أحواض الري في جميع أنحاء البلاد، حيث مات المشروع موتا هادئا بعدما عجزت الحكومة عن اكماله.

 

ومن الأخطاء البارزة الأخرى مشروع زراعة الأشجار الذي أطلقه الرئيس رجب طيب أردوغان، وهو جهد طموح لزراعة 11 مليون شتلة في اليوم الوطني للتشجير في شهر نوفمبر قبل أربع سنوات، وقد ماتت تسعون في المئة من الشتلات في وقت لاحق.

 

ولا يحب أو يكترث حزب العدالة والتنمية الحاكم لرأي الخبراء ويمضي قدما في أجندته الخاصة، بغض النظر عن العواقب، ورأينا ذلك جليا في الأحداث الأخيرة مع الزلازل التي حصد حياة عشرات الآلاف، ويعتقد المهندسون أنه إذا تم تطبيق لوائح البناء، لكان عدد المباني قد سقط، وكان عدد أقل من الناس سيموتون.

 

أن مياه تركيا قيمة للغاية بحيث لا يمكن المقامرة بها، إذا كان لنا أن نتجنب أزمة المياه، فيتعين على تركيا أن تتحول من نموذج التنمية القائم على البناء إلى حل يركز على عنصر الاستدامة، ويتعين على الحكومة أيضا أن تبدأ في الاستماع إلى خبرائها وإلى رزم البيانات التي ينتجونها.

 

 

ألكسندرا دي كرامر صحفية مقيمة في اسطنبول، وكتبت عن الربيع العربي من بيروت كمراسلة لصحيفة ميليت في الشرق الأوسط. تتراوح أعمالها من الشؤون الحالية إلى الثقافة ، وقد ظهرت في منكول و كارير ماقازين و مايسنفراسنسز وأخبار الفن في اسطنبول.

 

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: