مثل وصول نائب وزير الخارجية الأوكراني إلى نيودلهي هذا الأسبوع أحد الخيارين: اجتماع روتيني لمسؤول حكومي (وفقا للجانب الهندي) أو فرصة لإرسال رسالة قوية إلى الرئيس الروسي (وفقا للجانب الأوكراني). وفي الواقع ليس هذا ولا ذلك، فلأول مرة منذ غزو روسيا لأوكرانيا في العام الماضي، وصل وزير أوكراني إلى الهند، إن وصول أمينة دزاباروفا هو الخطوة الأولى في هجوم سحري متجدد لإقناع الهند بالتخلي عن حيادها الذي تتشبث به.

 

وحاولت الهند الحفاظ على موقف محايد منذ بداية الحرب، ومع تجنب انتقاد الغرب، رفضت فرض عقوبات على روسيا، بل وزادت مشترياتها من النفط الروسي مع فتور الأسواق الأوروبية. والتقى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بفلاديمير بوتين في الخريف وأعلن أن صداقتهما “باقية للأبد”. وحتى في ذلك الحين، لم يتحدث مودي كثيرا عن أوكرانيا، وحاولت الهند جاهدة في العام الماضي التحدث عن أي شيء سوى عن قضية الحرب.

 

وترأست الهند هذا العام مجموعة العشرين، وهي مجموعة مكونة من أغنى دول العالم، وحاولت تحويل مسار الحوار بعيدا عن الحرب، ولكن دون جدوى. وفي الاجتماع الأول في الشهر الماضي، الذي حضره من الجانب الروسي سيرجي لافروف ومن الجانب الأمريكي أنتوني بلينكن، لم يذكر مودي أوكرانيا في خطابه الافتتاحي. لكن في النهاية، اضطر وزير الخارجية الهندي إلى الاعتراف بوجود الكثير من “الاختلافات” بين الدول المشاركة، وعلى غير العادة، اختتمت مجموعة العشرين اعمالها من دون اصدار بيان مشترك.

 

وكان هذا هو موقف الهند لأكثر من عام، في محاولة منها لتجنب الانحياز لأي جانب.

 

لكن الموقف الهندي من أوكرانيا أعمق من مجرد تجنب الانحياز إلى أي طرف حيث يتعلق الأمر بما إذا كانت هذه حربا محلية لا علاقة لبقية العالم بها، أو حرب تتطلب من جميع البلدان الانحياز إلى أحد الطرفين.

 

وبالتأكيد هذه هي الطريقة التي تعتقدها دزاباروفا، ففي مقابلة خلال زيارتها، قالت إن الحرب كان لها تأثير عالمي ولا ينبغي النظر إليها على أنها مجرد قضية أوروبية، وأن الهند يمكن أن تلعب دورا أكبر في حل الصراع.

 

وتعد حرب أوكرانيا اختبارا بسيطا ومميتا للنظام الدولي بالنسبة للغرب، فهل يمكن تغيير الحدود الدولية بالقوة؟ هل من يمتلك القوة يمتلك الحق؟ وإذا كانت روسيا قادرة على الاستيلاء على أجزاء من أوكرانيا بالقوة ، فما الذي يمنع الدول الأخرى من فعل الشيء نفسه مع جيرانها؟

 

إن الخوف من تبعات هذا السؤال، فضلا عن المخاوف الحقيقية من أن روسيا الجريئة قد تستمر في تهديد البلدان الأقرب إلى قلب الاتحاد الأوروبي، مثل السويد وفنلندا، خلقت وحدة بين القادة الغربيين نادرا ما شهدناها في السنوات الأخيرة. لكن الكثير من بقية العالم، حتى بعد عام من الحرب، يرى الأمر بشكل مختلف تماما.

 

ويمكن رؤية لمحة عن ذلك في آخر تصويت للأمم المتحدة على الغزو، في نهاية شهر فبراير.

 

وفي حين صوتت غالبية دول العالم لصالح القرار، فقد صوتت مجموعة صغيرة من الدول الموالية لروسيا ضده، وامتنعت مجموعة واسعة من الدول الآسيوية عن التصويت وهي: الهند وباكستان وبنجلاديش وسريلانكا، إلى جانب كل دول آسيا الوسطى والصين. وتلك الدول مجتمعة تمثل 40 في المئة من الكوكب، وهم لا يريدون فقط البقاء في خانة الحياد، ولكنهم لا يمانعون من قول ذلك أمام الملأ.

 

وبالنسبة للهند، التي كانت على الصعيد التاريخي زعيمة حركة عدم الانحياز خلال الحرب الباردة وحاولت أن تظل مستقلة، فإن البقاء على الحياد له صدى تاريخي خاص، فهناك حجة سياسية مفادها أنه مع انحياز الصين بشكل متزايد إلى روسيا، فإن الهند قادرة على الاستفادة من حيادها في الاضطلاع بدور قيادي، والحياد في الواقع له أهمية كبيرة في السياسة الهندية.

 

وهذه هي المعضلة المركزية التي واجهتها الهند، وبقية دول الجنوب العالمي. إن الميل إلى أي من المعسكرين سيكون بمثابة انقلاب اعلامي لذلك الجانب، وسيكلف الهند الكثير، ومن الأفضل البقاء بعيدا عن المعركة، أو كما يقول النقاد، غض الطرف عن حرب وحشية.

 

وهناك أيضا فكرة مخفية وراء رفض الهند للمبادرات الأوكرانية: حيث يكاد يكون من المؤكد أن حرب أوكرانيا لن تنتهي بالطريقة التي يأملها الغرب.

 

وقد أحيت الوحدة المفاجئة بين الدول الغربية الآمال في ميلاد جديد لنظام عالمي يقوده الغرب، على غرار النظام الذي شهدناه في التسعينات قبل كارثة العراق وصعود الصين. حتى أن البعض يدعي أن هزيمة روسيا من شأنها التسريع من وتيرة ظهور ذلك النظام.

 

ورغم هذا فإن العقدين الماضيين كانا بمثابة تحول كبير ويكاد يكون حاسما بكل تأكيد نحو عالم متعدد الأقطاب، إن دولا بحجم الهند تتوقع بل وتريد أن توازن بين مصالحها الاستراتيجية، وأن تتحالف مع بعض الدول وتتنافس مع البعض الآخر، حتى أن بعض الدول ستتنافس وتتحالف في مجالات مختلفة.

 

ويحدث شيء مماثل من ذلك في الشرق الأوسط، حيث تسعى المملكة العربية السعودية إلى تحقيق التوازن في علاقاتها مع دول غير الولايات المتحدة، ففي الشهر الماضي، انضمت الرياض إلى منظمة شنغهاي للتعاون كشريك في الحوار، وفي الأسبوع الماضي، وللمرة الأولى، رست سفينة حربية روسية في جدة.

 

حتى لو تخيلنا أفضل الخيارات لأوكرانيا، وهو سفر مودي إلى كييف وإصداره لإدانة واضحة للحرب، فلن يغير ذلك المسار الهندي. لقد أمضت الهند عقودا من الزمان في استمالة طرفي الحرب الباردة. والآن وبينما تستعد للدخول إلى عالم متعدد الأقطاب، فمن غير المرجح أن تكون هذه هي لحظة التغيير.

 

يقوم فيصل اليافعي حاليا بتأليف كتاب عن الشرق الأوسط وهو معلق دائم الظهور على شبكات الأخبار التلفزيونية الدولية، وقد عمل في قنوات إخبارية مثل الجارديان وبي بي سي، ونشر تقارير عن الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا.

 تويتر: @FaisalAlYafai

 

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: