مثل مكتب البريد مصدرا دائما للإثارة والتشويق، وذلك عندما كنت أعيش في الولايات المتحدة منذ سنوات عديدة، حيث كنت أتطلع إلى فتح الصندوق والبحث في الرسائل القادمة الجديدة بكل حماس وإثارة. وكانت الصدفة المتمثلة في عدم معرفة ما سيجلبه كل يوم جزءا صغيرا، ولكنه جزء هام من نشاطي اليومي. ولم أعش تلك المشاعر منذ ما يقرب من 20 عاما، ويرجع ذلك جزئيا إلى اختلاف عمل الخدمة البريدية خارج الولايات المتحدة وجزئيا بسبب ظهور كل الأشياء الرقمية وغير الورقية.

 

وتشهد الخدمة البريدية حالة شبه انهيار في جنوب أفريقيا، حيث أعيش، حيث تم وضع الخدمة في جنوب أفريقيا في التصفية المؤقتة في شهر فبراير. وكان الانحدار في الخدمات البريدية بطيئا وثابتا خلال العقدين الماضيين. والآن تقدم المسؤولون التنفيذيون إلى نظام المحاكم ليتم وضعهم في إنقاذ الأعمال لتجنب دعاوى قضائية إضافية من الدائنين والهروب من التصفية.

 

واقوم باستخدام الخدمة البريدية من وقت لأخر، على الرغم من أنني ألغيت اشتراكاتي المطبوعة المفضلة لدي في المجلات والجرائد، إلا أنني ما زلت أحصل على إصدارات تم تسليمها منذ سنوات، وحين فتحت مؤخرا صندوق البريد الذي غطاه نسيج العنكبوت وجدت فيه نسخة من “مراجعة كتب لندن” بتاريخ أبريل 2022.

 

وتقوم مكاتب البريد حول العالم بأكثر بكثير من مجرد تسليم البريد، حيث يقدموا خدمات أساسية للمجتمعات مثل تسليم الفوائد ودفع الفواتير والخدمات المصرفية، والوصول الشامل (والمجاني) إلى البريد والطرود، ويعد الحصول على تلك الخدمات في البلدان المتقدمة والنامية أمرا حيويا للمجتمعات الحضرية والريفية المحرومة التي تفتقر إلى خيارات أخرى.

 

وأعرب النقاد والمحللون مثل كاتب العمود في ( بزنس داي كاياسيثول) عن أسفهم لعدم قدرة مكتب بريد في جنوب أفريقيا على استخدام قاعدته الكبيرة في البلاد لتحويل مسار نموذج الأعمال. وقال سيثول إن المشاريع التجارية الجديدة، “مثل تقديم المنح الاجتماعية وتقليص الفجوة الرقمية بين المواطنين من خلال توفير الموارد التكنولوجية إلى المجتمعات، كل ذلك تراجع للوراء ليصبح النشاط الرئيسي هو دفع رواتب الموظفين في نهاية كل شهر”.

 

ويعكس الموت البطيء للخدمة البريدية في جنوب إفريقيا صورة متطرفة لنمط شائع، فمع انتقال المزيد من الخدمات الأساسية مثل دفع الفواتير إلى الهواتف الذكية واختفاء الحاجة إلى البريد الفعلي، تلاشى دور مكتب البريد كمركز خدمة.

 

ويبلغ عمر مكتب البريد الهندي أكثر من 167 عاما، لكنه كافح في السنوات الأخيرة للبقاء على صلة بالعصر الرقمي، وعلى غرار تحديات البنية التحتية التي تواجه الخدمة البريدية الأمريكية، لم يتمكن مكتب البريد الهندي من الاستفادة من موارده الحالية لمواصلة تقديم الخدمات التي يطلبها السكان.

 

وفي الشرق الأوسط، حيث ربما نشأت أول خدمة بريدية في مصر القديمة وحيث طورت الإمبراطورية الفارسية شبكة توصيل متطورة شكلت أساس العديد من الأنظمة الحديثة، فإن القصة مختلفة بعض الشيء.

 

لقد تجاوزت العديد من الدول مرحلة لعب فيها مكتب البريد دورا أساسيا، فالإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، لم تقدم قط إمكانية الوصول الشامل إلى خدمات البريد، حيث كانت تلك الخدمات مسعره، ولم يعمل البريد العادي أبدا في البلاد. ووجدت فواتير الخدمات العامة وغيرها من الأوراق طريقها بشكل عام إلى مكاتب الجمهور ولكن الآن يتم التعامل مع كل شيء من خلال التطبيقات وعبر البريد الإلكتروني. ومن المثير للاهتمام أن مكتب البريد الإماراتي لم يصبح أبدا جهة فاعلة مهمة في دفع الفواتير أو التحويلات، وبدون وجود قاعدة في سوق التحويلات، لن يكون لمكتب البريد دور كبير في المجتمع. وتعد دولة الإمارات العربية المتحدة نقطة محورية عالمية للتحويلات المالية بسبب وجود العديد من العمال الأجانب.

 

ومن الغريب أن عدم وجود خدمة بريدية قوية والنظام الفريد لعناوين الطرق في البلاد (أو عدم وجود نظام لعناوين الطرق) كانت مكونات حيوية ضرورية لإنشاء واحدة من أكثر الشركات أهمية على الإطلاق في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث بدأت أرامكس، وهي أول شركة عربية مدرجة في بورصة ناسداك، كخدمة توصيل سريع في دبي ونمت لتصبح إمبراطورية لوجستية ضخمة متعددة الجنسيات. وتكمن العبقرية وراء نموذج أرامكس في كيفية استخدام الشركة للسائقين الذين يتمتعون بمعرفة للمناطق الداخلية،  وبدون أسماء شوارع واضحة، اعتمد هؤلاء السائقين على المعالم والخبرات لضمان تسليم الطرود إلى الشخص المناسب وفي الوقت المحدد.

 

ولا يزال لمكتب البريد دور مجتمعي أساسي كفكرة وخدمة، ولتحقيق ذلك الدور يجب عليه الابتعاد بشكل جذري عن المنتجات الورقية واحتضان واقعنا الرقمي. وتلك هي حقيقة مؤلمة لأولئك الذين لديهم ذكريات جميلة حول تلقي البريد كل يوم، لكن لا يمكننا التوقف عن استخدام اجهزتنا الالكترونية. ولكي يتبنى مكتب البريد وظيفته حقا في العصر الرقمي، يجب أن ينتقل إلى الخيارات الرقمية الكاملة. تخيل لو كان مكتب البريد في بلدك يعمل بنفس طريقة عمل متجر التطبيقات على هاتفك، حيث لا توجد فروع فعلية، ويمكن الوصول إلى الخدمات على جميع أجهزتك بنقرة زر واحدة.

 

هناك مجال للأفكار المبتكرة المتعلقة بمكتب البريد الرقمي، ولكن قد نضطر إلى الانتظار بعض الوقت لرؤيتها على أرض الواقع، وباعتبارها واحدة من أكبر وأقدم الشركات المملوكة للدولة في العديد من البلدان، فإن التغييرات التي تنشا في مكتب البريد تميل إلى أن تكون تغيرات بطيئة جدا في أحسن الأحوال، ولكن يمكن للبلدان الأصغر ذات العمليات البريدية الأقل تقليدية إجراء تغييرات بسهولة أكبر بكثير من البلدان الأكبر. ومع مكتب البريد الفاشل، تعد جنوب إفريقيا دولة أخرى يمكن أن يحدث فيها التغيير. أن اتجاه التغيير واضح، وهو مجرد مسألة إيجاد الإرادة السياسية لبناء مكتب بريد الغد.

 

جوزيف دانا هو كبير المحررين السابق لـ أكسبونانشال فيو، وهي جريدة إخبارية أسبوعية حول التكنولوجيا وتأثيرها على المجتمع، وكان أيضا رئيس تحرير إميرج85، وهو مركز يستكشف التغيير في الأسواق الناشئة وتأثيره العالمي.

تويتر: @ibnezra

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: