اصطفت مجموعات من أقداح الشاي الخزفية اليابانية القديمة في السوق الرئيسي في كابول، بين أكشاك اللحوم النيئة المكشوفة، وشالات الباشمينا الثمينة، والأجهزة الكهربائية الرخيصة، وكانت تلك الأقداح مكسورة ذات يوم ولكن تم ترميمها بمشقة من خلال الاستخدام الغراء والدبابيس المعدنية.

ولعب الحرفي المسؤول عن الترميم والمسمى – ” الباتاغار ” – دورا مهما في مجتمعات آسيا الوسطى لعدة قرون، وغالبا ما كان يتجول من سوق إلى أخر، وتضمن عمله (كانت تلك الوظيفة حصرية على الرجال) إصلاح الخزف الثمين من الصين واليابان وروسيا، وهي أشياء من التراث الثقافي في المقاهي على طول طريق الحرير القديم.

لكن لا يوجد اليوم من يصلح اباريق الشاي المتشققة في أفغانستان، حيث ضاعت مهنة الباتاغار في دفاتر التاريخ، مثلما ضاعت الذكريات التي تحملها أباريق الشاي.

وفي البيئات الاجتماعية والسياسية المعقدة، حيث تتمزق المجتمعات في كثير من الأحيان وينظر إلى التراث كمنارة للمصالحة أو عاملا من عوامل التوتر، يمكن أن يلعب الترميم وإعادة الإعمار (أو غيابهما) دورا مركزيا في عملية بناء السلام. إن إعادة تجميع أجزاء من الماضي ليس عملا عاديا، إنها عملية تحويلية بقدر ما هي عملية أدائية. وفي كتابه “بيت الحجر” يأخذ الراحل أنطوني شديد القراء في رحلة محسوسة وعاطفية حيث يعثر ويعيد تأهيل منزل عائلته في بيدمونت في جبل لبنان.

وتثار العديد من الأسئلة عندما يدخل الساحات المهجورة لأول مرة: من أين نبدأ؟ ولماذا الآن؟ ولأي غرض؟ وتتشابك الشكوك بشكل وثيق حول التقنيات والأساليب الزمنية، ويتكرر السؤال حول إعادة الإعمار لفترة ما بعد الحرب:  لمن نعيد البناء، وبأي طريقة  ومتى ، وهل يجب الاسترشاد بممارسة إعادة بناء التراث الثقافي.

وعادة ما تؤطر الظروف الثقافية والسياسية تلك المحادثات، لكن الاسئلة الفنية، مثل ما إذا كان يجب إعادة البناء، لا تقل أهمية، حيث ابتعد الخبراء تدريجيا عن إعادة بناء التراث المدمر في التقاليد الغربية للحفاظ على الهندسة المعمارية، وهي فكرة متجذرة في الاعتقاد الغربي بأن الآثار هي كيانات ثابتة ولا تتغير، وأن أصالتها تكمن في ثباتها. بينما في تقاليد أخرى، حيث تعتمد التقنيات المعمارية، على الخشب أو التراب، تكون الأشكال المعمارية مرنة بطبيعتها.

وفي النيجر ومالي، على سبيل المثال، تمول مؤسسة “ألف” إعادة تأهيل الهياكل الترابية الرئيسية (قبر أسكيا في غاو والمركز التاريخي لأغاديز)، والتي يجب أن تخضع لصيانة مستمرة. وبالنسبة لتلك المشاريع، تعتبر عملية الترميم عملية تقنية بقدر ما هي عملية اجتماعية، والتي تؤثر على الزمن الذي يمكن فيه إجراء إعادة التأهيل.

وغالبا ما تشكل الصيانة فرصة للمجتمع لتوحيد صفوفه والعمل بروح الفريق، وتتم عملية الترميم تلك في كلا البلدين عادة قبل موسم الأمطار مباشرة، وفي أوائل الربيع. لكن العوامل الخارجية، التي تتراوح بين الحروب وتوافر التمويل، أثرت على قدرة المجتمعات المحلية على تنفيذ بعض تلك المشاريع في إطارها الزمني الخاص.

ويشكل التأثير الاجتماعي لمشروع الترميم، وتوفر الرغبة في المجتمع المحلي عوامل حاسمة لنجاح أي مشروع.

وقامت المنظمة التي أعمل بها، وهي مؤسسة ألف، التي شاركت في تأسيسها فرنسا والإمارات العربية المتحدة في عام 2017، مؤخرا بتمهيد الطريق لإعادة الإعمار في منطقة مراد خاني في مدينة كابول القديمة، وهو حي نابض بالحياة منذ قرون مع (المقاهي) ومحلات الحدادة، حيث تركت سنوات الحروب المنطقة منهارة جزئيا ومدفونة تحت أطنان من النفايات، وبمساعدة البنائين من الناس المحليين، أعيد بناء المدارس وأعيد بناء الحمامات والمقاهي، وتمت إعادة الإعمار بسرعة لتوفير فرص العمل والمأوى التي تشتد الحاجة إليها، وتم المشروع بناء على التوقيت المناسب  للمجتمع المحلي.

وترسم ملامح الأطر الزمنية عوامل مختلفة في دول أخرى، ففي جنوب كابول ” ميس أيناك” وهي إحدى أشهر المستوطنات البوذية في العالم، تساعد “ألف” وشريكنا “الآغا خان للخدمات الثقافية في أفغانستان” في تنفيذ خطة طموحة وتدريجية للحفاظ على الموقع من اعمال محتملة للتنجيم في منجم نحاس، والهدف هو حماية الهياكل القائمة وفي نفس الوقت التعرف على  استراتيجيات طويلة المدى للحفاظ عليها.

وكان لحجم الدمار الثقافي في هذا القرن، من تدمير تماثيل بوذا في باميان في أفغانستان إلى تخريب الموصل القديمة في العراق، إلى مدينة تدمر في سوريا وخاركيف في أوكرانيا عواقب وخيمة على التراث العالمي المادي وغير المادي. وسواء تعلق الأمر بأضرار جانبية أو هجوم على رموز التراث، فإن المجتمع الدولي وقف مكتوف الأيدي في مواجهة تلك الهجمات الوحشية.

ولكن يمثل التقاعس عن العمل سابقة خطيرة، حيث يمكن أن يشكل ترميم التراث الثقافي وحمايته أداة للتغيير في فترة الحروب. وعلاوة على ذلك، لا بد من التأكيد على اعتبار التراث الثقافي أداة للسلام، وحتى مع احتدام الحرب، فإن مد الجسور بين العالم الدبلوماسي والمجتمعات المحلية يمكن أن يساعد في تكوين روابط التعاون التي ستكون مطلوبة عندما ينتهي القتال.

قد تكون بعض جوانب الموروث الثقافي في المنطقة غير قابلة للإنقاذ، مثل الباتاغار في كابول. ومع ذلك، فهناك الكثير جوانب التراث التي قد تحصدها نيران المدافع. فمن خلال التوازن الصحيح بين التحفيز والتوقيت والمتطلبات الفنية والشراكات، ومن خلال إشراك المجتمعات المحلية في العمل، يمكن إنقاذ التراث في مناطق الحروب للأجيال القادمة.

باستيان فاروتسيكوس: عالم آثار ومتخصص في التراث الثقافي، ومدير التطوير الاستراتيجي في “ألف” وهو التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: