سيكون لقرار روسيا الأخير حول تعليق مشاركتها في مبادرة حبوب البحر الأسود تداعيات تتجاوز في خطورتها الأمن الغذائي العالمي، وتدعم الأمم المتحدة تلك الاتفاقية والتي سمحت لأوكرانيا بتصدير الحبوب خلال الصراع المستمر.
ويمكن لذلك القرار أيضا إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة.
وفي نظر العديد من فريق آلة الدعاية الإعلامية الروسية، فإن تعليق المشاركة في صفقة الحبوب هو رد على الإذلال الذي تعرضت له روسيا على يد تركيا في 7 يوليو، عندما أعاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خمسة قادة أوكرانيين أسرى.
وأمضى الأسرى عدة أشهر في منشأة آمنة في تركيا بعد استسلامهم للقوات الروسية في مدينة ماريوبول الساحلية العام الماضي، حيث كان الجنود جزءا من فريق آزوف، الذي تعتبره روسيا منظمة إرهابية.
ومن وجهة النظر الروسية، كان قرار أردوغان بإعادة الرجال إلى ديارهم بمثابة صفعة على الوجه، فلو شاركت روسيا في صفقة الحبوب، التي تستخدم تركيا كمركز للعبور، لكانت صورة بوتين بدت أضعف، كما يعتقد الروس.
لكن انسحاب روسيا من الصفقة لا يعني أنها مستعدة لإعادة فرض حصار كامل آخر على البحر الأسود، كما فعلت في بداية الحرب، أو أنها تخطط لتعريض علاقاته مع أنقرة للخطر، ولكن ليس هناك شك في أن أحد الأهداف الرئيسية للضربات الصاروخية الروسية الأخيرة على الموانئ الأوكرانية هو منع البلاد من تصدير الحبوب ولو بصورة مؤقتة.
وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر حول المبادرة التي تدعمها الأمم المتحدة، إلا أن بوتين وأردوغان لا يزالوا “صديقين” وذلك بناء على تصريحات الزعيم التركي، ومن المتوقع أن يزور بوتين تركيا في شهر أغسطس، وستكون مبادرة الحبوب على رأس جدول الأعمال، ويصر أردوغان على أن بوتين مهتم باستمرار الاتفاق حول الحبوب ولو أنه قد أعلن صراحة عن انسحابه منه.
ولا تزال ملامح الاتفاق الجديد غير واضحة، حيث يزعم المسؤولون الروس أن تركيا ستضطر إلى شراء الحبوب الروسية “بالأسعار العالمية السارية”، بينما تأمل أنقرة في مواصلة شراء الحبوب الروسية والأوكرانية بأسعار مخفضة.
ومع ذلك، ولأن أردوغان هو صاحب الكلمة الأخيرة، فمن المتصور أن بوتين سيضطر إلى قبول الشروط التركية، وقد يكون الفشل في القيام بذلك مكلفا بالنسبة لموسكو.
أولا، يمكن لأنقرة غلق مضيقي البوسفور والدردنيل في وجه البحرية الروسية والسفن المدنية المتجهة إلى سوريا، مما قد يعقد من عمل روسيا في الدولة الشرق أوسطية.
كما يمكن أن تتعرض شركات الطاقة الروسية التي تعمل في مشاريع بمليارات الدولارات على الأراضي التركية للكثير من الضغوط، ويكاد يكون من المؤكد أن روساتوم، التي تبني محطة للطاقة النووية في محافظة مرسين بجنوب تركيا، وجازبروم، التي تسعى إلى تحويل تركيا إلى مركز للغاز، ستضغطان على الكرملين حتى لا يغضب الحكومة التركية.
وبالإضافة إلى ذلك، يمكن للسلطات التركية أن تتبع الغرب وتفرض عقوبات على الأوليغارشيين الروس الذين وجدوا ملاذا آمنا في تركيا.
وقد تبدأ تركيا وأوكرانيا في تنفيذ صفقات الحبوب دون مشاركة روسيا، الأمر الذي سيمثل إذلالا آخر لموسكو، حيث يمكن لأوكرانيا ببساطة الاستمرار في تصدير حبوبها إلى تركيا، متجاهلة تهديدات روسيا. وقد دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مؤخرا أردوغان والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إلى دعم شحنات الحبوب من دون التدخل الروسي.
وتعرف كييف وأنقرة أنه من غير المرجح أن يجرؤ الكرملين على إغراق السفن المدنية الأوكرانية أو التركية، لأن مثل ذلك الإجراء قد يؤدي إلى مشاركة تركيا بصورة مباشرة في حرب أوكرانيا. وبالتالي، يمكن لأوكرانيا وتركيا ببساطة الاستمرار في ممارسة تجارة الحبوب كالمعتاد. ولكن إذا قررت موسكو التصعيد، وبدأت بالفعل في مهاجمة السفن المتجهة إلى أو من الموانئ الأوكرانية، فمن شبه المؤكد أن كييف سترد على ذلك الهجوم، وكخيار أخير، يمكن لتركيا البدء في تزويد أوكرانيا بالأسلحة عبر البحر الأسود، وهو الأمر الذي سيمثل ضربة أخرى لبوتين وحربه في المنطقة.
ولتجنب أي من تلك النتائج، قد لا يكون أمام الكرملين خيار سوى السير وراء تركيا، ويمكن لآلتها الدعائية دائما أن تفسر سياسة موسكو على أنها “بادرة حسن نية”، بهدف مساعدة البلدان الفقيرة في أفريقيا. وقد يصر أردوغان حتى على أن موسكو تواصل إرسال الحبوب بصورة مجانية إلى دول مثل مالي وجيبوتي والسودان والصومال، وهي الأماكن التي تحاول تركيا توسيع نفوذها فيها.
وحقيقة أن شركة بايكار التركية المنتجة للطائرات بدون طيار بدأت في بناء مصنع لها في أوكرانيا يشير بوضوح إلى أن أردوغان يشعر بالثقة بالنفس ولا يرى روسيا تهديدا لمصالحه، ويعرف أردوغان أنه إذا كانت تركيا على الطاولة، فإن مساحة المناورة السياسية (وحتى العسكرية) المتاحة لبوتين محدودة.
وتجلس تركيا الآن على مقعد القيادة، ولن يتردد أردوغان في دفع بوتين للتوصل إلى صفقة حبوب جديدة توفر أموال أنقرة، وتجنب العالم الجوع، وقد تبدو خطوة موسكو استراتيجية، لكنها في الواقع حيلة يائسة من قبل زعيم سرعان ما تنفد خياراته.
نيكولا ميكوفيتش: محلل سياسي في صربيا، ويركز عمله في الغالب على السياسات الخارجية لروسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، مع إيلاء اهتمام خاص لسياسات الطاقة وخطوط الأنابيب.