لعل التوقيت فقط هو الذي كان مفاجِئًا؛ فقد انتشرت الانقلابات في منطقة الساحل الإفريقي على مدار السنوات القليلة الماضية انتشارًا واسع النطاق صار معه وقوع انقلاب آخر هذا العام أمرًا حتميًّا. ولكن سقوط محمد بازوم، الذي يلعب دورًا محوريًّا في تأثير الغرب في هذه المنطقة الحيوية، لم يكن متوقعًا.
ذلك لأن الإطاحة ببازوم تقضي على آخر شريك موثوق للغرب في الساحل الإفريقي، تلك المنطقة التي أسفر فيها ضعف الدول وتغيُّر المناخ والجماعات المسلحة عن الخراب والدمار. وقد عانت دول الساحل من عدد من الانقلابات، واتضح أن التاريخ الطويل للاستعمار الغربي يستعيد نشاطه فيما يخص الدعاية والقوة التحفيزية. ولم يقتصر اندلاع الاحتجاجات وظهور الشعارات المناهضة لفرنسا على النيجر فحسب، وإنما شهدت معظم المنطقة المشكلات ذاتها.
يخيم الغموض على تفاصيل انقلاب النيجر؛ إذ أسقط الجيش بازوم على ما يبدو قبل أن يقرر بالضبط ما سيحدث لاحقًا. ويبدو أن ردود الفعل السريعة (مثل فرض المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا لعقوبات وإعلان منطقة حظر طيران فوق النيجر) قد باغتت مدبري الانقلاب. وثمة آراء تعكس عدم التيقن ذاته في الانقلابات الأخرى التي شهدها الساحل الإفريقي.
بيد أن كل هذه الآراء تشير إلى وجود موجة مؤكدة من الانقلابات والاضطرابات التي كدرت صفو الحياة في المنطقة على مدار الثلاث سنوات الأخيرة. ومن الجلي أن ثمة محاولة واسعة النطاق لزعزعة النظام القائم الذي يقوده الغرب. وسواء أكان مصدر تلك المحاولة عاملًا واحدًا فقط أو كان (وهو الاحتمال الأرجح) نتاج كلٍ من نشاط الجماعات الجهادية وأخطاء الغرب والدعاية الخارجية، فالفائز الوحيد من هذا الاضطراب هو روسيا.
ورغم حدوث تغييرات على مدار سنوات عديدة، فإن مسار الأحداث واضح للغاية.
لفهم ما يحدث، يمكن تصوُّر النيجر كما تظهر على الخريطة؛ دولة غير ساحلية تحدها ليبيا من الشمال وتشاد من الشرق ونيجيريا أكبر دول القارة من الجنوب، ومالي وبوركينا فاسو من الغرب. وباستثناء نيجريا، شهدت كلٌ من هذه الدول مظاهرات ضد فرنسا وتدخلات مؤيدة لروسيا.
وفي مالي، وقع انقلاب عام 2020، وبعده انقلاب ثانٍ في العام التالي. وفي العام الماضي، بعد عشر سنوات من العمليات العسكرية في مالي، أُجبِرت فرنسا على الانسحاب من البلد بعد صدامها مع الحكومة. وانتقلت قواتها إلى النيجر. والآن، يريد النيجيريون أيضًا خروج الفرنسيين.
حدث الأمر نفسه في بوركينا فاسو التي تتاخم حدودها مالي والنيجر؛ إذ شهدت انقلابًا العام الماضي تبعه خروج القوات الفرنسية قبل بضعة أشهر. وسرعان ما دخلت مجموعة المرتزقة الروسية فاغنر بوركينا فاسو.
وقد ألقى الرئيس البوركيني الشاب، إبراهيم تراوري، خطابًا حماسيًّا في القمة الروسية الإفريقية الأسبوع الماضي تساءل فيه كيف ما تزال قارة تنعم بهذه الموارد الوفيرة أفقر قارة في العالم و«يجول رؤساؤنا العالم للتسوُّل». وتخدم هذه التساؤلات — رغم صدقها — ما تروج له روسيا بأنها قوة عالمية مناهضة للإمبريالية.
ظهرت قوات فاغنر أيضًا في جمهورية إفريقيا الوسطى التي تقع جنوب تشاد. فتعقد الجمهورية هذا الأسبوع استفتاء دستوريًّا سيلغي المدة المحددة للرئاسة ويسمح للرئيس الحالي بالبقاء في السلطة. وتحمي فاغنر ذلك الرئيس، فوستان آرشانج تواديرا، كما اُختيرت للإشراف على التصويت. وقد حضر تواديرا القمة الروسية الإفريقية في سانت بطرسبرغ.
يُستثنَى من ذلك تشاد — لكن حتى في تشاد، ذكرت صحيفة واشنطن بوست في أبريل أن الولايات المتحدة تعتقد أن روسيا تخطط لاستخدام مجموعة فاغنر للإطاحة بالحكومة في إنجامينا.
وكل هذه الأحداث مرتبطة بعضها ببعض، لكن الصلة التي تربط بينها على وجه الدقة غير واضحة. فيشار بأصابع الاتهام عادةً إلى روسيا، ولكن إذا كانت موسكو وراء الاضطراب، فقد جنيت مكاسب على نحو غير متناسق من خلال استخدام الدعاية والقوة العسكرية بين الحين والآخر لفتح باب كان مفتوحًا بالفعل نتيجة عوامل أخرى.
يسلط الانقلاب الضوء على الشقاق الناشئ في الساحل الإفريقي بين الدول التي يمكن وصفها بأنها مناهضة للغرب، وربما مؤيدة لروسيا، والدول الأخرى. وأوقفت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقي مشاركة مالي وبوركينا فاسو فيها. وحذرت هاتان الدولتان، اللتان تخضعان لحكومتين عسكريتين، من أنهما ستعتبران أية محاولة للتدخل في النيجر إعلانًا للحرب. وكانت النتيجة، على مدار ما يزيد عن أسبوع، تجمدًا حذرًا في الأوضاع.
لكن روسيا هي التي ستجني ثمار هذه المناوشات، دون حتى أن يبدو عليها أنها تسعى لذلك.
ويوجد الكثير من الأسباب وراء اهتمام الدول الغربية بالحفاظ على الاستقرار في الساحل الإفريقي (يشير المنتقدون أنفسهم إلى تكلفة تجاهل استبدادية الكثير من القادة). فأصبح الساحل آخر محطة للجماعات المسلحة مثل القاعدة وداعش التي أُخرِجت من الشرق الأوسط. وباتت النيجر، التي تقع على حدود ليبيا، ممرًا مهمًا للمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى البحر الأبيض المتوسط.
وبالطبع، مع تراجع استقرار دول الساحل الإفريقي إثر إطاحة الانقلابات بالقادة واحدًا تلو الآخر، ثمة مخاوف بشأن ما يمكن أن يحدث إذا وصلت هذه الحالة من عدم الاستقرار إلى أكبر دولة في إفريقيا، نيجيريا.
لكن شعوب دول الساحل الإفريقي لا تكترث. وتلجأ إلى روسيا، مثلما تدل الأعلام التي ترفرف فوق رؤوس المتظاهرين في مظاهرات النيجر، دون حتى أي وعود معلنة من موسكو.
مع تأجج المشاعر المناهضة لفرنسا والغرب، تجد روسيا سهولة في الحفاظ على شعبيتها بفضل تاريخ دعم الاتحاد السوفيتي لحركات الاستقلال الإفريقية واللفتات التي تصدر من جانبها بين الحين والآخر، مثل إلغاء معظم الدين الإفريقي لروسيا الأسبوع الماضي. ولذا، فإن موجة الانقلابات التي يشهدها الساحل الإفريقي تحقق فوائد غير متوقعة لروسيا.
يعمل فيصل اليافعي حاليًا على تأليف كتاب عن الشرق الأوسط، وهو مُعلِّق دائم على شبكات الأخبار التلفزيونية الدولية، وقد عمل في قنوات إخبارية مثل الجارديان وبي بي سي، وقدَّم تقارير عن الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا وإفريقيا. تويتر: @FaisalAlYafai