بالنسبة إلى فرنسا، يبدو الأمر بمنزلة إخفاق مهين، تمامًا مثلما انسحبت أمريكا من أفغانستان تجر أذيال الخيبة منذ عامين. ولكن بالنسبة إلى النيجر، فالأمر يبدو نصرًا مدويًا، كما تفاخر قادتها العسكريون في بيان لهم عقب الإعلان. أما بالنسبة إلى بقية منطقة غرب إفريقيا، فالأمر بمنزلة الإنذار؛ وهو تداعي الحضور الغربي في المنطقة.

بعد شهرين من توعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بردٍ “فوري وحاسم” في حال تعرض المواطنين الفرنسيين للمهاجمة بعد وقوع الانقلاب العسكري في النيجر، وبعد مرور 10 أيام على تصريحه باحتجاز السفير الفرنسي رهينةً في البلاد، بدا الرئيس الفرنسي وكأنه قد رضخ للأمر.

القوات الفرنسية ستغادر النيجر -حسبما أعلن ماكرون- في غضون الأسابيع القليلة التالية، وهذا يعني الانسحاب الكامل لما يقدر بـ 1500 مقاتل بحلول نهاية العام. وبذلك يبلغ الحضور الفرنسي في النيجر نهايته، وتنتهي معه بالتبعية إستراتيجية فرنسا التي دامت نحو 10 أعوام في منطقة الساحل الإفريقي نهاية مخزية.

يُذكر أن القوات الفرنسية حاضرة في المنطقة منذ عقود، لكن آخر محاولاتها للسيطرة على دول الساحل الإفريقي وترسيخ الاستقرار فيها كانت عندما نشرت فرنسا قواتها في مالي عام 2013 لصد تقدم الجهاديين ضد الحكومة التي تحظى بدعمها. وقد حققت عملية برخان -كما أُطلق على عملية نشر القوات في أنحاء خمس دول- نجاحًا محدودًا، لكنها بدأت في الانحلال منذ ثلاثة أعوام مع تصاعد الأصوات المناهضة لفرنسا.

ويرجع ذلك في المقام الأول إلى الانقلاب العسكري الذي حدث في مالي عام 2020، والذي أطاح بالقوات الفرنسية خارج البلاد، وما أعقبه من انقلاب عسكري آخر في بوركينا فاسو بعد مضي عام واحد، لينتهي بذلك الحضور الفرنسي في تلك المنطقة. وهكذا أصبحت النيجر مركزًا للعمليات الفرنسية، حتى هذا الصيف حينما تم عزل رئيسها المدعوم من فرنسا من السلطة.

يُذكر أن أحداث العنف قد اندلعت في المنطقة على مدار الستة أعوام الماضية. كما أُزهقت أرواح الآلاف من المدنيين، وبدت البلاد غير قادرة على إحكام قبضتها على أراضيها الشاسعة التي لا تخضع لسيطرتها. وعلى الرغم من أن الغرض الأساسي من عملية برخان كان التصدي للعصيان، فإنها عجزت عن إيقاف العنف ضد المدنيين، وقد أسهم في نزع فتيل ذلك العنف في واقع الأمر غارة جوية فرنسية قصفت حفل زفاف عن طريق الخطأ في مالي عام 2021، ما أسفر عن مقتل 19 شخصًا من المدنيين. كما أن غضب الشعوب من حكوماتها ومن فرنسا، بالإضافة إلى تاريخ فرنسا المديد الذي يحفل بأعمال الفساد في القارة أسهما في تهيئة المناخ للترحيب بالانقلابات.

إلا أن رحيل فرنسا ليس بالنبأ السار لشعب النيجر، ولا المنطقة بكاملها. فالعلاقة الوثيقة بين فرنسا ونخبة دول الساحل الإفريقي استمرت لعقود من الزمن، ورحيل القوات الفرنسية الآن ينذر بنهايتها. ماذا سيحل محلها إذن؟

هنا تكمن المشكلة الجوهرية التي ينتظرها مستقبل هذه البلدان. فالتفسير المثالي لحدوث الانقلابات العسكرية التي اجتاحت المنطقة هو أن شعوبها قد سئمت من الفساد والفقر وهجمات الجهاديين، مع ملاحظة أن فرنسا -بما لها من نفوذ- لم تتمكن من صد أي منها، ولذا عمدت هذه الشعوب إلى استبدال زعمائها المدعومين من فرنسا والإتيان بآخرين لهم شعبية بين صفوفها. لكن هذا تفسير حالم إلى أبعد الحدود لعدة أسباب؛ الأول هو أن أيًا من تلك الدول التي أطاحت بحكوماتها لم تستطع الإتيان بقادة ممثلين عن شعبها؛ إذ لا يزال جميعها تحت حكم العسكر.

والثاني هو أن ذلك التفسير يتجاهل الأمر الذي جعل مساحات تلك البلاد الشاسعة أرضًا خصبة للوقوع تحت تأثير الإسلاميين؛ وهو عدم تطورها. فليس من المرجح أن تتحسن ظروف المعيشة بين ليلة وضحاها تحت حكم رجال يحملون السلاح في أيديهم وفي ظل رحيل الدول الغنية.

أما السبب الثالث والأهم على الإطلاق هو عدم وجود أي قوة خارجية تريد مساعدة هذه البلدان على أن تنعم بالاستقرار. فروسيا -التي غالبًا ما توصف بأنها تنازع النفوذ الفرنسي، والدولة التي يمكنك رؤية علمها مرفرفًا في التحالفات الموالية للمجلس العسكري في النيجر- ليس لها مصلحة في استبدال ذلك الحضور الفرنسي العسكري الواسع.

حتى داخل المنطقة، ثمة توافق محدود. فالتجمع الإقليمي للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ECOWAS) الذي هدد بالتدخل العسكري في النيجر لإعادة الرئيس المنتخب محمد بازوم، على خلاف الآن مع المجالس العسكرية للدول الثلاث.

وقَّعت مالي وبوركينا فاسو والنيجر منذ أسبوعين على اتفاقية دفاع مشترك تمت صياغتها لتشكيل جبهة مضادة للإرهاب، في رد واضح منها على تهديد المجموعة الاقتصادية. فمن الواضح أن القادة العسكريين يعتقدون أنه يمكنهم كسب المزيد بالوقوف معًا ضد التهديدات الداخلية والخارجية، بدلاً من المشاركة في منظمات متعددة الأطراف.

تعني تلك الاتفاقية انقسام المجموعة الاقتصادية إلى فريقين في واقع الأمر: فريق في الجنوب يمتد من الساحل إلى نيجريا، وفريق في الشمال يتألف من ثلاثة أنظمة حكم عسكرية. وبات التوافق بين الفريقين أصعب من أي وقت مضى.

ولكن ليس من المرجح أن تغادر فرنسا المنطقة بالكلية. حيث إن لها حضور عسكري في مناطق أخرى في غرب أفريقيا، وفي التشاد والسنغال وساحل العاج.

والسؤال الأهم الآن هو ماذا عن قوات الولايات المتحدة في النيجر؟ للولايات المتحدة أكثر من ألف مقاتل في قاعدتين عسكريتين، وتعتمد على النيجر في إطلاق عمليات الطائرات المسيرة في جميع أنحاء المنطقة. وهذه إشارة إلى انصباب تركيز المجلس العسكري على موقفه المضاد لفرنسا، وليس الغرب بشكل عام؛ إذ لم يُذكر سوى القليل عن هذه القوات.

في ظل عدم التوافق الذي يخيم على المنطقة ويمتد إلى خارجها، يبدو أن زعماء الانقلاب هم الأطراف الأكثر حسمًا في المشهد. لكن تقويض إستراتيجية فرنسا في منطقة الساحل الإفريقي لا يعني أن ثمة من لديه إستراتيجية أفضل. في الواقع، لا يُعَد استبدال نظام تدعم البنادق الفرنسية زعماءه السياسيين بآخر يحمل زعماؤه السياسيون السلاح تغييرًا كبيرًا من شأنه أن يعود بأي نفع على المنطقة.

فيصل اليافعي يعكف حاليًا على تأليف كتاب عن الشرق الأوسط، وله مداخلات تلفزيونية كثيرة على الشبكات الإخبارية الدولية. وقد عمل لدى كبرى المنابر الإخبارية مثل الجارديان وBBC، مسهمًا بتعليقاته على شؤون الشرق الأوسط وشرق أوروبا وآسيا وأفريقيا. تويتر: ‎@FaisalAlYafai

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: