ربما تكون العملية العسكرية السريعة في أذربيجان قد أنهت صراع ناغورنو كاراباخ الذي طال أمده، لكنها جلبت معها مخاوف متزايدة من احتمال نشوب صراع جديد بين الدول مثل أرمينيا وأذربيجان وربما تركيا وإيران وروسيا، وفي حين تم توضيح الآثار الإقليمية، لكن يجب عدم تجاهل الآثار الجيوسياسية الأوسع نطاقا.
لقد أعاد صراع “ناغورني كاراباخ” النقاش الدائم حول السيادة الإقليمية ضد تقرير المصير إلى دائرة الضوء ، فلطالما تم الاعتراف بناغورنو كاراباخ دوليا كجزء من أذربيجان، ولكن الوسائل العسكرية المستخدمة لاستعادتها تتناقض بشكل صارخ مع النهج الدبلوماسي والمتعددة الأطراف التي تتم الدعوة إليها تقليديا لحل النزاعات الإقليمية.
وعلى وجه الخصوص، فإن قبول المجتمع الدولي باستيلاء أذربيجان على الإقليم يثير تساؤلات حول ما يحتمل أن يكون عليه موقفها في الحالات التي تتصاعد فيها نفس التوترات بين السلامة الإقليمية وتقرير المصير.
ويعترف اليوم عدد قليل من البلدان بتايوان كممثل شرعي للصين، بينما يعترف معظمها بجمهورية الصين الشعبية، وتعتبر بكين تايوان إقليما متمردا، حيث أصدر الرئيس شي جين بينغ تعليمات لقواته المسلحة بأن تكون جاهزة بحلول عام 2027 لضم الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي. وحافظت الولايات المتحدة على غموض استراتيجي حول ما إذا كانت ستتدخل عسكريا إذا حدث مثل هذا الاحتمال، وتصريحات الرئيس جو بايدن حول هذه القضية، والتي بدا أنها تشير إلى أن الولايات المتحدة ستتدخل، تقابلها دائما بالتخفيف من قبل موظفيه، ولكن إذعان الغرب لتحركات أذربيجان الأخيرة، مدفوعا على الأرجح بالرغبة في الحفاظ على علاقات جيدة مع باكو الغنية بالنفط والغاز وتخفيف أسعار الطاقة العالمية، لن يمر دون أن ترصده بكين.
وهناك قضية لازالت عالقة وتنذر بالكثير من العواقب وهي كوسوفو، وكوسوفو هو إقليم يتمتع بالحكم الذاتي وانفصل عن صربيا في تسعينيات القرن العشرين. وعلى عكس ناغورنو كاراباخ، فإن حوالي 60 في المائة فقط من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تعترف بكوسوفو كدولة مستقلة، مع استمرار صربيا في المطالبة بها كإقليم تابع لها. وفي أطار الاتحاد الأوروبي ترفض إسبانيا بإصرار الاعتراف بكوسوفو، وعلاوة على ذلك، فإن الدول ذات الوزن الثقيل مثل روسيا والصين والهند والبرازيل لا تعترف باستقلال كوسوفو. وهناك بالفعل مخاوف من اندلاع حرب بين كوسوفو وصربيا ، وقد تستخدم روسيا، التي تحتفظ بعلاقات وثيقة مع بلغراد، ناجورنو كاراباخ كذريعة لدعم العمل العسكري المحدود من جانب صربيا في كوسوفو، مما يخلق مشكلة للاتحاد الأوروبي في ساحته الخلفية.
والسؤال الآخر الذي أثارته الأحداث في ناغورني كاراباخ هو فعالية النهج الدبلوماسية المتعددة الأطراف لحل الصراعات، حيث تملك الصين والولايات المتحدة نهجا مختلفا تجاه الالتزام بالقانون الدولي، على سبيل المثال، على الرغم من أن الصين من الدول الموقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، إلا أن أفعالها في بحر الصين الجنوبي غالبا ما تتناقض مع تلك الاتفاقية، وبالمثل، في حين تنتقد الولايات المتحدة سلوك الصين، لم تصادق واشنطن على نفس الاتفاقية.
وتخصصت روسيا في دعم مبادرات تقرير المصير في النزاعات المجمدة، من منطقة دونباس الأوكرانية إلى أوسيتيا الجنوبية في جورجيا، والطريقة البسيطة للنظر إلى هذا السلوك، وهو المنظور الغالب في الصحافة الغربية، هي أن هذا سلوك سيء من قبل روسيا والصين، ومع ذلك، فإن التناقض الأمريكي في تطبيقه الانتقائي والتزامه بقوانينها المحلية (خليج غوانتانامو وأبو غريب، على سبيل المثال) وكذلك التحايل على المؤسسات المتعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة (غزو العراق عام 2003) قد خلق أرضا خصبة لانتهاكات المعايير العالمية من قبل الجهات الفاعلة الأخرى.
وفي قضية ناغورنو كاراباخ، أرسلت واشنطن رئيسة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية سامانثا باور إلى أرمينيا، مؤكدة بمهارة اهتمامها الأساسي بتقديم الدعم الإنساني للأرمن في المنطقة، قارن هذا بالنهج المتبع تجاه إثيوبيا عندما أرسلت الحكومة الفيدرالية في ذلك البلد قوات لقمع تمرد في مقاطعة تيغراي، مما أدى إلى أزمة إنسانية حادة. باختصار، حتى في حين يزعم الغرب بقيادة الولايات المتحدة أنه يدافع عن المعايير العالمية لما بعد الحرب العالمية الثانية، فمن غير المرجح أن يوقف سلوكه وتصريحاته الانهيار البطيء لهذا النظام.
إن ما حصل في ناغورنو كاراباخ يحمل دروسا مهمة لأرمينيا وبلدان أخرى أيضا، فبعد حرب كاراباخ الأولى، رفضت السلطات الأرمنية العرقية في ناغورنو كاراباخ، وكذلك الحكومة في يريفان (التي يهيمن عليها سياسيو كاراباخ) أي شيء أقل من الاستقلال التام للإقليم. وعندما تحول ميزان القوى العسكرية في نهاية المطاف لصالح أذربيجان على مدى العقد الماضي، لم يتبق لأرمينيا سوى مساحة ضئيلة للغاية للمناورة، هناك دروس في هذا بالنسبة لدول أخرى مثل إسرائيل التي تحتل حاليا الأراضي من خلال القوة الغاشمة للتفوق العسكري في انتهاك للقانون الدولي.
وأخيرا، فإن النتيجة المأساوية لصراع ناغورني – كاراباخ هي أن المنطقة من المرجح أن تصبح خالية من الأرمن في اليوم الذي تفرض فيه باكو سيطرتها الصارمة على الإقليم، وفي تسعينيات القرن العشرين بعد حرب كاراباخ الأولى، أجبر ما يقرب من مليون من الأذربيجانيين العرقيين على الفرار من المنطقة، ولكي نكون منصفين، بعد استيلائها على الإقليم، طمأنت باكو الأرمن في ناغورنو كاراباخ بالحماية وحقوق المواطنة الكاملة الممنوحة حاليا للمواطنين الأذربيجانيين الآخرين.
ومع ذلك، فإن هذا لا يبشر بالخير بالنسبة للصراعات الأخرى، كما هو الحال في كشمير وقبرص والتبت وشينجيانغ وأيرلندا الشمالية، حيث تتقاطع الهوية والمطالبات الإقليمية، وقد افترض العالم منذ وقت طويل أن الصراعات ستحل نفسها من خلال الدبلوماسية والحلول التوفيقية، وأن التحركات السكانية الجماعية أصبحت شيئا من الماضي، ومع ذلك، يبدو بشكل متزايد أنه في خضم الاضطرابات الجيوسياسية المستمرة، وضعف المؤسسات المتعددة الأطراف، والمعايير العالمية المهترئة، ستصبح الصراعات المجمدة حروبا ساخنة مرة أخرى على نحو متزايد.
دنيانيش كامات: محلل سياسي يركز على الشرق الأوسط وجنوب آسيا. كما يقدم استشارات بشأن التنمية الاجتماعية والاقتصادية للكيانات الحكومية والقطاع الخاص.
X: @sybaritico