أدت الموجة الأخيرة من العنف والتي اندلعت بين إسرائيل والفلسطينيين إلى حالة من الضجر والانعزال بين الساسة وخبراء السياسة الخارجية، وكانت هناك القليل من التوقعات أن الولايات المتحدة أو بصورة أشمل المجتمع الدولي يمكنه حقًا التأثير في القضايا الأساسية؛ حتى لو استمر وقف إطلاق النار الذي تم الاتفاق عليه مؤخرًا، والواقع أن الإجهاد المعنوي والمادي الذي ظهر خلال ردود الفعل على الأحداث التي جرت خلال هذا الشهر يدعو إلى تحليل أعمق لتلك الحالة المزمنة والمأساوية.

وقد كانت الدبلوماسية الأمريكية ناجحة وقوية في الوصول إلى سلام دائم ومتماسك بين إسرائيل والفلسطينيين منذ السبعينات إلى تسعينات القرن الماضي، وقد بدأت ذلك الأمر بالطريقة التي أنهت بها حرب أكتوبر عام 1973، وقد نجح وزير الخارجية حينها هنري كيسنجر في عملية إنهاء الحرب لأجل منع أيًا من الطرفين من تحقيق نصر ساحق، كما نجح في تهيئة الظروف من أجل القيام بمفاوضات دبلوماسية مُثمِرة، ووضع الأساس لإدارة الرئيس جيمي كارتر من أجل إنجاز اتفاق كامب ديفيد للسلام بعدها بخمس سنوات، ومنذ التفاهمات التي وضعتها كامب ديفيد مرورًا باتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية في العام 1981 واتفاقية السلام الإسرائيلية الأردنية في العام 1994 التي جرت خلال فترة رئاسة كلينتون؛ كانت الدبلوماسية الأمريكية بمثابة الأداة الجوهرية للوصول إلى حل لهذا الصراع الإقليمي، وقد نجحت تلك الدبلوماسية في التوفيق بين الدعم السياسي الداخلي للأمن الإسرائيلي ومعالجة مطالب العدالة لدى الطرفين.

والمؤكد أنه كان من الأسهل الوصول إلى عملية تطبيع بين دولتين بدلًا من البحث عن استراتيجيات لحل المعضلة الفلسطينية، لكن وبصورة بطيئة تحولت الإدارات الأمريكية للقبول بمفهوم تأسيس دولة مكتملة للفلسطينيين، واعتنقت مسألة الوصول إلى تسوية إقليمية باعتبارها الإطار الأساسي لعملية السلام، وفي النهاية تم تضمين تلك التسوية مع القرارات المستمدة من خطة التقسيم الصادرة عن الأمم المتحدة في العام 1947، وكان الرئيس جيمي كارتر أول من يدعم إقامة دولة فلسطينية ويتبناها كسياسة أمريكية، على الرغم من أن الرئيس رونالد ريجان أعلن بعدها رفضه لتلك المسألة بصورة مُطلقة، لكن الرؤساء اللاحقين غالبًا ما تحدثوا عن حل “الدولتين” والقبول بدولة فلسطينية، وذلك خلال الخطابات السنوية لهؤلاء الرؤساء أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وكان هذا الأمر من الجانب النظري، لكن بصورة عملية لم تأتِ لحظة قيام الدولة الفلسطينية، وأحدث الشواهد على هذا الأمر هو موقف الرئيس باراك أوباما في العام 2011 والذي عارض الجهود الفلسطينية من أجل تحويل وضع فلسطين إلى دولة غير عضو في الأمم المتحدة، وبعد أن أفصح اوباما عن نية الولايات المتحدة استخدام حق النقض (الفيتو) للوقوف بوجه هذا التحرك في مجلس الأمن؛ صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة في العام 2012 من أجل منح فلسطين هذا الوضع الجديد، وقد عارضت الولايات المتحدة القرار بالإضافة إلى 8 دول أخرى، كما امتنعت غالبية الدول الأوربية الحليفة عن التصويت.

وقد تدهورت قدرة الولايات المتحدة بصورة تدريجية على صياغة المناقشات والتأثير على نتائج التوتر الإسرائيلي – الفلسطيني، وذلك بعد الفشل في التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد في نهاية عهد إدارة كلينتون، (الحسابات التاريخية لا تلقي باللوم على الولايات المتحدة في هذا الإطار، بل تلقي باللوم على رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات بسبب تغيير رأيه في اللحظة الأخيرة).

ويعُد الحذر الذي أبداه الرئيس جو بايدن والاستجابة الهادئة لحملة القصف التي شنتها إسرائيل على غزة؛ يعُد أحدث الشواهد على تدهور النفوذ الأمريكي في مقابل الأفعال الإسرائيلية، والواقع أن مطالبات بايدن المتكررة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أسهمت بشكل مؤكد في التوصل إلى وقف إطلاق النار في العشرين من مايو، هذا إلى جانب جهود الدبلوماسية المصرية التي أتت في المقدمة، والإسرائيليين توقفوا عن القصف حينما باتوا على استعداد لذلك، ومسألة الانتقال من هذا النجاح التكتيكي إلى التزامات أكثر استمرارًا بغرض إحياء عملية السلام سوف يستلزم تحولًا جوهريًا في الأولويات بالنسبة لسياسة بايدن الخارجية.

والمرة الأخيرة التي استخدمت فيها الولايات المتحدة نفوذها الحقيقي – عبر منع المساعدات الخارجية – احتجاجًا على توسيع إسرائيل للمستوطنات في الأراضي المتنازع عليها؛ جاءت خلال فترة حكم إدارة الرئيس جورج بوش الإبن، وكان الأمر حينها بمثابة عقاب قصير الأجل لكنها كانت خطوة سياسية هامة لم تحافظ عليها الإدارات اللاحقة.

وتعُد المستوطنات واحدة من العقبات أمام المزيد من العمل المُثمِر لمستقبل فلسطين، لكن تلك المستوطنات فعلت الكثير للقضاء على إمكانية الوصول إلى تسوية إقليمية أكثر من أي عقبات أخرى، وتعُد قضايا القدس باعتبارها عاصمة للدولة الفلسطينية واللاجئين وحق العودة بمثابة أكثر القضايا الساخنة والمعقدة من الناحية القانونية، لكن وضع الأراضي وحقوق الفلسطينيين في وطنهم وأرضهم تعُد مسألة جوهرية.

وأحد أسباب الحرب الأخيرة يعود إلى مصادرة منازل الفلسطينيين في حي متنازع عليه بمدينة القدس هو حي الشيخ جرّاح، لكن هناك سبب آخر للحرب وهو إحكام إسرائيل قبضتها داخل وحول المسجد الأقصى خلال شهر رمضان، والأمر أكبر بكثير من الصراع مع حركة حماس الإسلامية صعبة المراس والتي تسيطر على قطاع غزة، وقد امتد الصراع ليشمل الفلسطينيين وعرب إسرائيل في المدن المختلطة التي تقع في الداخل الإسرائيلي، ولم يقتصر الأمر فقط على الأراضي المحتلة.

والواقع أن الاستهتار بالمعتقدات الدينية للعرب المسلمين؛ سواء قام بذلك المواطنين الإسرائيليين أو سكان الأراضي المتنازع عليها أدى إلى تأجيج المشاعر حتى بين أصدقاء إسرائيل الجدد في دول الخليج العربي، وسيكون من المثير أن نرى إذا ما كان تنفيذ اتفاقات أبراهام – اتفاقات التطبيع بين إسرائيل وكل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان – سيتأثر بأحداث العنف، وهذا الإنجاز الدبلوماسي الذي عملت إدارة ترمب على تسهيل الوصول إليه كخطة بديلة لخطة السلام الإسرائيلية الفلسطينية؛ والتي تعُد معيبة رغم التفاخر بها؛ تلك الخطة البديلة قامت على فرضية أن باقي الدول العربية لم تعُد تهتم بالفلسطينيين الذين عجزوا عن تحقيق شئ لأنفسهم، وأغلب الظن أن تلك الفرضية لم تعُد حقيقة واقعة.

وبالنسبة لإدارة بايدن؛ فإن صمود العلاقات الرسمية الجديدة بين إسرائيل ودول الخليج العربي يعُد من أقل التحديات التي تواجه تلك الإدارة، والأكثر أهمية هو أن إدارة بايدن يجب عليها معالجة تلك القضية في سياق الرغبة في التركيز على تحديات جيوسياسية أخرى، وتلك الإدارة تدرك أن تأكيد قيادتها الدبلوماسية سوف يستهلك كل طاقتها، وذلك بالنظر إلى حقيقة أن إسرائيل في الغالب لن تكون الشريك المتعاون مع إدارة بايدن، والحقيقة المُرّة تكمن في أن إسرائيل التي تحصل على قدر من نفوذها عبر السخاء الأمريكي (مساعدات أمريكية لإسرائيل بإجمالي 150 مليار دولار، وثلاثة مليارات من الدولارات مبيعات أسلحة سنوية)، كما تحصل على قدر من هذا النفوذ عبر قدرات الأمن القومي التي تمتلكها؛ تعُد عاملًا مستقلًا يدفع إلى الثقة، في أن أية انتقادات سياسية قد يوجهها جمهور الناخبين الأمريكيين تعُد من قبيل الضوضاء، وليس من قبيل الضغوط الحقيقية على إسرائيل.

وإذا ما نظرنا إلى الأمر نظرة شاملة، يبدو وكأن إسرائيل قد وقعت في فخ اتباع أسلوب القوة العسكرية المفرطة، وذلك من أجل الوصول إلى حل للمعضلة الوجودية لإسرائيل، لكن ومع تحول الثقل السياسي إلى اليمين فإن الحكومة لم تعُد تواجه عوائق داخلية، وهؤلاء الإسرائيليين الذين يهتمون بالتعايش السلمي والوصول لتسوية إقليمية يعتبرون بمثابة ظلًا شاحبًا لأسلافهم الأقوياء في المجتمع الإسرائيلي، أما الموقف في الولايات المتحدة فيمثل نقيضًا مثيرًا للدهشة، فقد تصاعد ضغط اليسار المُمثّل في التقدميين من الحزب الديمقراطي، حيث ينظر هؤلاء إلى أسلوب بايدن على أنه ضعيف للغاية وأنه واقع تحت تأثير شعار حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.

وليس للمرء أن يشك في رغبة وقدرة الولايات المتحدة على الاستجابة للقضايا الدولية الحساسة، ولا تزال الولايات المتحدة تمتلك قوة عسكرية ساحقة، ورجال دبلوماسية يمتلكون مهارات تذكرنا بعقود من التفوق الأمريكي، ورئيس يمتلك رؤية عالمية للمصالح الأمريكية في عالم بات بتسم بالتنافس والتعاون، وإنها لحقيقة تتسم بالتناقض أن محاولة احتلال مركز القيادة فيما يخص الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الحالي تعُد استجابة غير كافية تدعو إلى الحزن؛ وهي استجابة لقضايا أشد عُمقًا، وهذا الأمر سيؤدي إلى تدهور النفوذ الأمريكي في المنطقة بصورة تدريجية.

إيلين ليبسون، شغلت سابقًا منصب نائب رئيس مجلس الاستخبارات الوطنية الأمريكية، وتشغل حاليًا منصب مدير برنامج الأمن الدولي في كلية سكار للعلوم السياسية والحكومية بجامعة جورج ماسون في ولاية فرجينيا، كما شغلت سابقًا منصب الرئيس والمدير التنفيذي لمركز ستيمسون في واشنطن.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: