امتلأت شوارع العراق بالمتظاهرين مرة أخرى، ويُوشك رئيس الوزراء المخلوع في لبنان على العودة إلى قصر الحكومة في بيروت. ها هو التاريخ يكرر نفسه في العراق ولبنان مع عودة الحركات الاحتجاجية في كلا البلدين إلى الواجهة من جديد خلال شهر أكتوبر، بعد مرور صيف صعب الوطأة، وتعيين سعد الحريري رئيسًا جديدًا للوزراء بعد عام من استقالته الجذرية إثر احتجاجات واسعة النطاق. ويتعين على كلا الوزيرين احتواء المتظاهرين.

يواجه رئيسا الوزراء الحالين في لبنان والعراق معضلات مماثلة: إذ يجب على كليهما الإسراع في اعتماد إصلاحات جذرية وشاملة لمواجهة المصالح السياسية المعادية والراسخة، وعليهما القيام بذلك تحت أعين الحركة الاحتجاجية العازمة على التخلص من النظام بأكمله. ويواجه كلا الوزيرين مُراقبة دولية غير مسبوقة. وعاد رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، للتو من جولة في لندن وباريس وبرلين، لحشد الدعم اللازم لتطبيق خطة اقتصادية جديدة، وسيجد الحريري الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهتمًا بالشخصيات التي اختارها الحريري لحكومته الجديدة، بعد أن أخذ على عاتقه التحدث باسم الشعب اللبناني.

ومع ذلك، فلدى كل من الوزيرين ورقة هامة لاستخدامها، إذا ما أرادا ذلك: حيث يُمكنهما اختيار الوقوف إلى جانب المحتجين في مواجهة من هم في السلطة بدلاً من الانحياز إلى جانب الأحزاب السياسية على حساب الشعب. ومن خلال الانحياز العلني إلى جانب حركات الاحتجاج، يمكن لكل منهما استخدام قوة الشارع لفرض إصلاح واسع النطاق.

يُواجه “الكاظمي” مهمة أصعب في العراق.

حيث تشهد العراق احتجاجات قوية. وهي الاحتجاجات التي أطاحت برئيس الوزراء العام الماضي، وصمدت أمام محاولات حازمة للقضاء عليها من جانب قوات الأمن العراقية، وحتى المليشيات. وتُشير عودة الاحتجاجات إلى الشوارع في أكتوبر إلى أن الاحتجاجات مستمرة، رغم القيود المفروضة بسبب جائحة كورونا.

ويبدو أن الاحتجاجات لم تتخل حتى عن نظرتها الراديكالية: فمازال المحتجون راغبين في وضع نهاية شاملة للنظام السياسي الحالي. وبعد أن ثارت الاحتجاجات السابقة الناجمة عن الإحباط بسبب قلة الوظائف وانعدام المرافق الأساسية -رغم أن العراق من المُفترض أن يكون واحدًا من أغنى دول العالم وأكثرها تقدمًا نظرًا لامتلاكه رابع أكبر احتياطيات نفطية مؤكدة في العالم- تحولت إلى غضب على النظام، ومن إبقاء النخب العراقية له.

لذا، إذا كان الكاظمي يعتقد أنه يستطيع ببساطة تفريق الاحتجاجات بالقوة، أو انتظارها حتى تتلاشى من تلقاء نفسها قبل انتخابات العام المقبل، فمن المُرجح أن تتم الإطاحة به بدلاً من ذلك.

في المُقابل، ينبغي على “الكاظمي” اغتنام الفرصة التي توفرها الحركة الاحتجاجية. ولكي يتمكن من تحقيق ذلك، عليه أن يُظهر أنه في صف المحتجين، الأمر الذي يعني، أولاً وقبل كل شيء، أن يعرف من يقتلهم. فمنذ بدء الاحتجاجات بالعام الماضي، تعرض مئات الأشخاص للقتل أو الاختطاف. وتعرض العديد منهم للخطف ببساطة على يد رجال مسلحين لا يحملون أي شارات شرطية أو عسكرية. وعندما تولى الكاظمي منصبه في مايو، وعد بإجراء تحقيق مستقل، بل أنه التقى بعائلات القتلى والمختفين.

ورغم مرور ستة أشهر، لم يبدأ هذا التحقيق بعد. رغم أن فتح التحقيق كان من المُفترض أن يكون أول مهام رئيس الوزراء، وهو ما سيُظهر التزامه بالكشف عن الحقائق. وقد يكون هذا التحقيق سببًا في إقناع الحركة الاحتجاجية المتشككة بأن “الكاظمي”، رئيس المخابرات السابق، يقف إلى جانبهم بالفعل.

لا يوجد سياسي يعرف قوة الحركة الاحتجاجية اللبنانية أفضل من الحريري: فهو رئيس الوزراء الذي أسقطته الحركة الاحتجاجية العام الماضي. وهي الحركة التي ستضعه، بطريقة ما، في موقف صعب. وبصفته رئيسًا للوزراء، حاول “الحريري” تهدئة المتظاهرين من خلال طرح بعض الإصلاحات التي لا معنى لها، ولكنه فشل لاحقًا في حمايتهم عندما تعرضت مواقع الاحتجاج للنهب على يد مجموعات مجهولة من الرجال.

ولكن العام التالي أتاح فرصة أخرى “للحريري” في أعقاب الانفجار المدمر في ميناء بيروت في أغسطس/آب. لا يزال التحقيق جاريا، إلا أنه لم يُسفر عن أي إجابات، رغم مرور شهرين على الحادث. وتطالب الحركة الاحتجاجية بفتح تحقيق دولي، وهو الأمر الذي يستطيع الحريري تحقيقه بسهولة، خاصة وأن اغتيال والده كان أيضًا موضوع تحقيق دولي.

وفي حالة إجراء تلك التحقيقات المستقلة، فإنها ستُشكل علامة فارقة عمَّا حدث من قبل- حتى لو كان الحريري هو نفسه من يمثل تلك الفترة السابقة. فضلاً عن أن التحقيق سيُشير إلى شيء أكثر أهمية، وهو أن رؤساء الوزراء المعنيين على استعداد لتحدي سلطة النخبة الراسخة.

وتتمثل غريزة رئيسي الوزراء في سعيهما نحو الإصلاح التقني والاقتصادي، وهو نوع الإصلاح الذي يلقى قبولاً من النخب السياسية في النظام الطائفي، مع الأمل في إنحاء السياسة والمحتجين جانبًا. وانتهى الكاظمي من وضع جزء كبير من خطة اقتصادية جديدة مدتها ثلاث سنوات. ويعتقد “الكاظمي” أن تلك الخطة من شأنها أن تنهي اعتماد العراق على النفط. أما الحريري، فبمجرد الانتهاء من تشكيل الحكومة، سيسعى إلى إبرام اتفاقية إنقاذ من صندوق النقد الدولي على وجه السرعة لحاجة بلاده الشديدة إليها.

ورغم ذلك، فتصرفهما الغريزي يقع في خير محله. حيث أن الوقوف إلى جانب المتظاهرين في بيروت وبغداد هو التصرف الصحيح لرئيسي الوزراء. بل إنه أفضل كثيرًا، لأنه يُمثل سياسة ذكية. حيث يوفر المتظاهرون لرئيسيّ الوزراء سلاحًا قويا لاختراق الطبقة السياسية الراسخة وفرض التغيير. فإذا أدخل الكاظمي في العراق والحريري في لبنان إصلاحات واسعة باسم المتظاهرين في الشوارع، فسيكون ذلك نصرًا لابد منه. بل إنهما قد يُطلقا على تلك الإصلاحات اسم الديمقراطية الفعَّالة.

يكتب “فيصل اليافعي” حاليًا كتابًا عن الشرق الأوسط، وهو أحد المُعلقين السياسيين الذين يتكرر ظهورهم في الشبكات الإخبارية التلفزيونية العالمية. عمل “فيصل” لدى وكالات أنباء مثل “الجارديان” و”بي بي سي”، وأعد تقارير عن الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: