كان البيان الختامي لقمّة برلين حول مستقبل ليبيا طويلًا، لكن مُعظم المراقبين كانوا يبحثون عن كلمة واحدة في هذا البيان: “وقف إطلاق النار”، وكانت الكلمة حاضرة في البيان ولكن ليس كإعلان، بل كتعهُد من الأطراف المشاركة على العمل من أجل الوصول لوقف إطلاق النار.

لكن ورغم ذلك فإن القمة لا تزال تُحسب نصرًا دبلوماسيًا بجميع الأشكال، فقد نجحت قمة برلين في الجمع بين ممثلي 12 دولة من 4 قارات، هذا إلى جانب 3 مؤسسات دولية، كما جعلت القائد العسكري خليفة حفتر يلتزم بالبيان الرسمي للقمة، وكانت تلك بمثابة جائزة صغيرة، لكن الأمر كان قد استعصى على موسكو قبل انعقاد قمة برلين بأسبوع، وذلك حين غادر حفتر موسكو دون أن يقوم بالتوقيع على وقف إطلاق النار، كما أن الأمر كان قد استعصى على إيطاليا قبل ذلك بأيام، وذلك حينما رفض فائز السراج غريم حفتر ورئيس حكومة طرابلس المُعترف بها دوليًا لقاء رئيس الوزراء الإيطالي في روما، وذلك بعد أن علِم السراج بوجود خليفة حفتر في المدينة.

والواقع أن قمة برلين نجحت في تأجيج نشاط الدول الأوربية، وذلك بعد فترة طويلة اندثر فيها نشاط الأمم المتحدة، كما تم تهميش دور الدول الأوربية.

ولكن هذا الزخم الدبلوماسي من الممكن أن يكون عمره قصيرًا، إذا ما فشلت دول الاتحاد الأوربي في التخلص من المنافسة فيما بينها، والواقع أن تضاؤل النفوذ الأوربي في ليبيا لا يعود فقط إلى تعاظُم انخراط أنقرة وموسكو في تلك العملية، والواقع أن الخلل يكمن في المنافسة بين الدول الأوربية ذاتها، والذي قد قيد من نفوذ الدول الأوربية، كماأن هذا الخلل أوجد طريقًا للآخرين من أجل التدخُل.

وعلى الرغم من أن القوة التي أطاحت بمعمر القذافي كانت تحت قيادة حلف شمال الأطلسي (حلف الناتو)، إلا أن النفوذ الأوروبي في ليبيا قد تعرّض للانحسار على مدار سنوات، والسبب الرئيسي في ذلك يعود إلى المنافسة الصريحة بين كل من فرنسا وإيطاليا، فقد دخلت شركات الطاقة الرئيسية التابعة للدولتين (توتال وإيني) في منافسة من أجل الحصول على صفقات في الداخل الليبي، لكن على المستوى السياسي كانت هناك حربًا مفتوحة بدأت في العام 2017، حينما تم انتخاب إمانويل ماكرون رئيسًا لفرنسا، وفي غضون أسابيع قام ماكرون بعقد محادثات سلام في باريس حول الأزمة الليبية دون دعوة القادة الإيطاليين.

وقد نشأ الصراع بين باريس وروما بسبب الأوضاع الخطيرة في ليبيا، وعلى الرغم من تجاهُل تلك المسألة لفترة طويلة؛ إلا أن ليبيا تعُد جزءًا من الصراع السياسي الدائر حول السفن التي تبحر في البحر المتوسط، وهناك عامل اقتصادي يتمثّل في احتياطيات الغاز الموجودة أسفل تلك المياه.

أما العامل السياسي فهو معلوم لدى الجميع.

وبعد أن اجتاحت الفوضى ليبيا، باتت سواحلها الطويلة مركزًا رئيسيًا بشمال أفريقيا للمهاجرين الذين يأتون من عموم القارة السمراء، والكثير من هؤلاء توجّه إلى إيطاليا، وجاء انعكاس تلك العملية على الساحة السياسية الإيطالية بشكل سريع، خاصة أن إيطاليا بدأت تميل لكفّة اليمين.

لكن هناك أيضًا صراعًا سياسيًا أوسع نطاقًا: فالصراع الليبي باتت له تداعيات طالت منطقة غرب أفريقيا، وهي المنطقة التي تتورط فيها فرنسا بشكل هائل. كما أن باريس لا تزال ترى نفسها كإحدى أكبر الوسطاء على مستوى الاتحاد الأوربي، لذا فلا توجد لديها نية في التخلّي عن تلك المكانة لصالح روما فيما يخص قضايا الهجرة والأمن، خاصة وأن السواحل الإيطالية تعُد أكثر عُرضة للتأثُر بسبب قوارب المهاجرين الآتية إلى أوربا. وهذا التوتر أسفر عن اندلاع حروب كلامية بصفة متكررة بين باريس وروما، حتى وصل الأمر إلى قيام فرنسا باستدعاء سفيرها في روما منذ عام مضى.

وهناك سبب إضافي يفسر الجهود الدبلوماسية الأوربية المفاجئة في ليبيا، وهو ذات السبب الذي رفع من حدة التوتر الفرنسي – الإيطالي، وهو يتعلّق باستغلال احتياطيات الغاز الضخمة التي توجد تحت مياه البحر المتوسط.

ومنذ اكتشاف حقل الغاز الضخم (ظهر) قبالة السواحل المصرية في العام 2015، واكتشاف حقل ليفياثان قبالة السواحل الإسرائيلية، باتت هناك حالة اندفاع من أجل إعادة ترتيب العلاقات السياسية، من أجل الاستفادة من تلك الاحتياطيات في مسألتي التصدير والبيع.

ومن ثم بات هناك سببًا جديدًا يسرع من وتيرة تلك الصراعات، فهناك العلاقات التركية مع كل من قبرص واليونان، والعلاقات الإسرائيلية مع مصر والفلسطينيين، وعلاقات الاتحاد الأوربي مع أنقرة، كل تلك العلاقات تأثرت جراء تلك المستجدات، وروسيا أيضًا متورطة حتى النخاع في تلك العملية، وذلك لأن 40% من إمدادات الغاز السنوية التي تذهب إلى أوربا تأتي من روسيا، وهذا يعني أن اكتشاف الحقول الجديدة في البحر المتوسط بات يمثل تهديدًا للمصالح الروسية.

لذا حين قامت تركيا في ديسمبر بالتوقيع على الاتفاقية مع ليبيا بشكل مفاجئ، لإنشاء منطقة اقتصادية خاصة داخل مياه البحر المتوسط، أسفر هذا الأمر عن اضطرابات أصابت الاتحاد الأوربي، وتلك الاتفاقية من الممكن لها أن تؤدي إلى إفشال المحاولات المصرية والإسرائيلية لبيع الغاز إلى أوربا، علاوة على ذلك هناك مشروع خط الأنابيب الروسي – التركي الذي تم إطلاقه هذا الشهر، مما أدّى بالعواصم الأوربية إلى الإسراع بإظهار رد الفعل على كونها باتت محاصرة بالتحالف التركي – الروسي – الليبي الجديد.

والسبب في ظهور تلك الثغرة التي نفذت منها كل من تركيا وروسيا يعود إلى التنافس الفرنسي – الإيطالي، وقد حاولت إيطاليا دعم حكومة السراج وفي ذات الوقت لعب دور الوسيط، أما فرنسا فتدعم خليفة حفتر بصورة مطلقة، ولم تقدم روما أو باريس خطة واضحة ترمي إلى إنهاء الأزمة الليبية.

لذا فإن الأمر قد وقع في أيدي هؤلاء الذين لديهم الإرادة لاستخدام القوة، والمقصود في تلك الحالة هي كل من تركيا وروسيا والقوات التابعة لحفتر. وفي تناقض واضح مع الحالة الإيطالية – الفرنسية؛ وجدت كل من تركيا وروسيا نفسيهما في حالة تنافر واضحة في هذا النزاع كما حدث بينهما سابقًا في سوريا، لكنهما نجحتا في إيجاد أرضية مشتركة للتآمر والمضي قدمًا.

والبيان الرسمي الذي تم إعلانه برعاية برلين لا يمكنه الاستمرار، وذلك لأن تلك القمة أرادت تجميد الوضع الراهن في ظل صراع لا يزال مشتعلًا للغاية، ولم تكن هناك إدانة لقيام تركيا بإرسال جنود إلى ليبيا، وهُم جنود سوريون بطبيعة الحال، مما أضاف بُعدًا جديدًا غير متوقعًا لهذا الصراع، وذلك على الرغم من احتجاج مصر على وجود تلك القوات على حدودها الغربية. ولا توجد خطة واضحة للتعامل مع قوات حفتر، التي لا تزال تحاول اجتياح طرابلس.

ولو كانت أوربا جادّة فيما يخص فتح طريق لها للعودة إلى ليبيا، فإن عليها فعل ما هو أكثر من عقد القمم الكبرى التي تضم اللاعبين الدوليين، وهي تحتاج إلى خطة وموارد من أجل تغيير الواقع على الأرض، وذلك لأنه بينما انشغلت الدول الأوربية بالمشاحنات فيما بينها بسبب قضايا هامشية، كانت هناك قوى أخرى دفعت بنفسها إلى قلب ساحة المعركة في ليبيا.

يقوم فيصل اليافعي حالياً بتأليف كتاب حول الشرق الأوسط، كما أنه يظهر كمعلق بشكل متكرر على شبكات التليفزيون الإخبارية الدولية، وقد عمل بالعديد من وسائل الإعلام المعنية بالأخبار مثل غارديان و”بي بي سي” وعمل مراسلاً بالشرق الأوسط وشرق أوربا وآسيا وأفريقيا.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: