فقدت الليرة التركية ما يصل إلى 45 في المئة من قيمتها مقابل الدولار في أقل من عام. ويعد الانهيار المستمر للعملة أحد أسوأ الأزمات الاقتصادية التي واجهتها تركيا على الإطلاق. ومع ذلك، ترفض الحكومة التراجع عن سياساتها الاقتصادية الفاشلة.
وبعد الانتخابات الرئاسية في عام 2015 ترسخ النموذج الاقتصادي الحالي، والقائم على فكرة أن سياسات تقديم أسعار فائدة منخفضة هي فكرة لا تؤدي إلى التضخم، وهي النظرية التي طرحها الخبير الاقتصادي الأميركي إيرفينغ فيشر في القرن العشرين. ولاقى هذا الاتجاه الفكري ترحيب كبير لدى الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يؤمن إيمانا راسخا بأن أسعار الفائدة المرتفعة هي “أساس كل شر”. ولكن استراتيجية حكومته المحفوفة بالمخاطر تتعارض مع أغلب الأفكار التقليدية بشأن كيفية التعامل مع مستويات التضخم المرتفعة في مختلف أنحاء العالم. وبدلاً من ذلك قررت تركيا خفض أسعار الفائدة، وقد أدت نتيجة النهج التركي إلى تفاقم الانخفاض المطرد في قيمة الليرة. ومع ارتفاع قيمة الدولار هذا الأسبوع إلى 14 ليرة، فمن المقرر أن يكون الخاسر الأول هو الأسر التركية بفضل هذه التجربة الاقتصادية غير العقلانية. وأوضح أردوغان للأمة على شاشات التلفزيون أن خفض الحكومة لأسعار الفائدة كان يهدف إلى تشجيع الاستثمار الأجنبي وتعزيز فرص العمل والصادرات والنمو، كما زعم أن هذا من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض التضخم. ويبدو أن الفرضية القائلة إن ارتفاع منسوب الصادرات من شأنه أن ينقذ اقتصاد تركيا في عام 2022 هي فرضية مشكوك في صحتها إلى حد كبير.
وخطة العمل هذه مشكوك في صحتها من الأساس بسبب التالي: أولاً، أنها أدت إلى ارتفاع معدل التضخم السنوي المقدر بنسبة 20٪، وثانيًا، تسبب الوباء العالمي في ضغوط مستمرة على سلسلة التوريد مما قلل من توفر المواد الخام، وثالثاً ، يتم استيراد معظم الطاقة التركية من خارج البلد.
ويرى مستشار الخزانة والاقتصادي السابق محفي إجلمز بأن ثقة أردوغان في هذه الاستراتيجية ليست في محلها، فلا ينبغي التلاعب بالمؤشرات الاقتصادية الأساسية لكي ينجح النموذج الاقتصادي المبني على مبدأ “أسعار الفائدة المنخفضة تساوي التضخم المنخفض”.
واتفق الخبير الاقتصادي “ريفيت جوركايناك” مع ما يراه “محفي إيجلمز” قائلاً: “التضخم ليس مثل الكوليسترول، فلا نحتاج إلى طرف آخر لقياس ما يمكننا رؤيته بأنفسنا، هل يعتقد أي شخص أن التضخم سينخفض فقط لأنا طلبنا منه ذلك “. ويخشى معظم الخبراء من أن مسار العمل هذا، والقائم على أرقام وبيانات غير موثوق بها قد يدفع الاقتصاد التركي نحو تضخم كبير.
وبغض النظر عن كل ذلك، لا يزال أردوغان متمسك بموقفه، وذهب إلى حد وصف ذلك بـ “حرب الاستقلال الاقتصادية” ضد القوى الأجنبية الغيورة من نجاح تركيا و “لوبي أسعار الفائدة” الذي يتدخل في شؤون البلاد. ولسوء الحظ، يؤمن الكثير من ناخبي حزب العدالة والتنمية بهذا النوع من الخطاب، لكن السؤال هو: إلى متى؟
ويشعر الأتراك كل يوم بشكل متزايد بالضغوط الاقتصادية بفضل تراجع قدرتهم الشرائية، وقد أدى الوباء بالفعل إلى ارتفاع في أسعار المواد الغذائية الأساسية، والذي أدى لتدهور الحالة المعيشية للمستهلكين الأتراك، ففي أقل من عام، ارتفعت تكلفة الدجاج بنسبة 70 في المئة تقريبًا، وارتفع سعر الحليب بنسبة 37 في المئة، كما ارتفع سعر زيت عباد الشمس، وهو مكون رئيسي لوجبات الطعام في كثير من المنازل، بنسبة 40 في المئة. ومع ارتفاع أسعار المواد الغذائية، لجأ البعض إلى التخزين قبل ارتفاعها أكثر مما هي عليه، ورداً على ذلك، ولتجنب نفاد الكميات، بدأت محلات السوبر ماركت ومحلات البقالة في تحديد الكمية التي يمكن للمتسوقين شراؤها من كل سلعة، وشملت تلك القائمة السكر والزيت والقهوة.
ووجه ذلك ضربة مالية كبيرة للشعب التركي، حيث أشار تقرير شركة الأبحاث “متروبول” لشهر نوفمبر أن 71 في المئة ممن تم سؤالهم يعتقدون أنهم ” يزدادون فقرًا مع مضي السنوات”. وتكمن المشكلة الأكثر إثارة للقلق في النهج الاقتصادي التركي غير التقليدي في أثره على أصحاب الدخل المحدود، وعلى الرغم من أن الحكومة رفضت في السنوات الأخيرة الكشف عن عدد الأشخاص الذين يتقاضون الحد الأدنى للأجور، إلا أن آخر رقم في عام 2014 هو 40٪. وبسبب انخفاض قيمة الليرة، انخفض الحد الأدنى للأجور إلى 295 دولار شهريًا في شهر نوفمبر.
والإصرار على تحقيق نمو اقتصادي بأي ثمن يتطلب تنظيم أسعار الفائدة لصالح المستثمرين والمصدرين الأجانب، وذلك يضر بالأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط، ومنذ عام 2013، عانت تركيا من انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، حيث انخفض إلى 8538 دولارًا في عام 2020.وحقيقة عدم توفر مؤسسات لتنظيم قرارات الدولة يضعف الثقة اللازمة في سوق مستقر، وهو أمر يجب أن يكون من اختصاص البنك المركزي التركي. لكن البنك فقد شرعيته بسبب محاولات أردوغان تقويض استقلاليته، وهذا أمر مقلق، خاصة للمستثمرين في المستقبل، ولا يوحي بالثقة على الرغم من انخفاض تكلفة الليرة والعمالة.
إن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة هي نتيجة نظام سياسي غير صحي، وهو النظام الذي في أمس الحاجة إلى إعادة تأهيل، وقد تم الكشف عن ضعف الكفاءة على المستوى التنفيذي، ثم تم إخفاء ذلك الكشف بسبب قلة الشفافية. إن موقف الحكومة التركية المتشبث بهذا النهج الاقتصادي يزيد الطين بلة. وقد انخفض مؤشر ثقة المستهلك التركي إلى أدنى مستوى له على الإطلاق، حيث وصل إلى 71 نقطة في نوفمبر، ويرى الخبير الاقتصادي مصطفى سونميز أن هذا مؤشر واضح على تزايد انعدام الثقة بالحكومة.
ولا توجد بوادر تحسن لعام 2022، حيث من المتوقع أن تسدد تركيا 168 مليار دولار من الديون الخارجية في 12 شهرا المقبلة، وهو الأمر الذي أصبح أكثر صعوبة بسبب ضعف الليرة. وعلى مر السنين، كان الصعود السياسي لحزب العدالة والتنمية الحاكم مبنيًا على أساس الاستقرار الاقتصادي. واليوم، لا يعتبر الاستقرار الاقتصادي مجرد وعد عفى عليه الزمن، ولكن الهدف الرئاسي لتركيا في أن تكون من بين أكبر 10 اقتصادات في العالم يبدو الآن وكأنه حلم بعيد المنال.
ألكسندرا دي كريمر هي صحفية تعمل في إسطنبول، ونشرت تقارير عن الربيع العربي من بيروت بصفتها مراسلة في الشرق الأوسط لصحيفة ميلييت. وتتراوح أعمالها بين الشؤون الحالية والثقافة، وقد ظهرت في مونوكل، ومجلة كورير، وماسون فرانس، وإسطنبول آرت نيوز.