يحكي أحد الموظفين أن مسؤولاً في حكومة “براغ” قد وجد نسخة من صحيفة “الصين يوميًا” على مكتبه بطريقة غريبة، وفي تلك الأثناء، كان رؤساء الدول قد وصلوا إلى العاصمة التشيكية. وهنا، أمر هذا المسؤول، وهو قائد شاب يعارض تمامًا رؤية الصين للعالم، بالتخلص من صحيفة الحزب الشيوعي إلى خارج المبنى، وأمر باستجواب الموظفين حول مصدر هذه الصحيفة، بل ومعاقبة موظف البريد بسبب تسليمه لهذه النسخة.

وهنا، كيف أصبحت صحيفة تحمل عناوين مثل “المتاجر اليابانية تحظر الإباحية”، و”بالنسبة للسيدات كبار السن فدهون الساق أفضل من دهون البطن”، نقطة خلاف بالنسبة لموظف حكومي لدى واحدة من أقوى الديمقراطيات في أوروبا؟. ومثل الكثير من الأشياء في أوروبا هذه الأيام، يتم إعادة تقييم كل ما له علاقة بالصين.

وقبل تفشي جائحة فيروس كورونا “كوفيد-19″، لم تكن أنشطة الصين في أوروبا، وفي أي مكان آخر، تحظى باهتمام كبير. وقبل عشر سنوات، ومع تأثر منطقة المحيط الأطلسي بالأزمة المالية العالمية، استطاعت الصين بفضل نجاحها الباهر في التعامل مع تلك الأزمة، ومساهماتها في استقرار المؤسسة المالية الأوروبية في الوقت المناسب امتلاك قدراً لا بأس به من السمعة الطيبة لدى العواصم الأوروبية. وفي العام الماضي، كان الرأي العام في أماكن مثل بلغاريا واليونان وبولندا وليتوانيا يحمل الثناء على الصين إلى حد كبير.

وانبهر القادة في بروكسل أيضًا بالصين. والحقيقة كان ثمة مخاوف من أن بكين كانت تحاول بث الخلاف والانقسام داخل الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن وصف الصين في العام 2019 بأنها “منافس نظامي”. ورغم ذلك، بقي اهتمام الاتحاد الأوروبي منصبًا على التجارة والاستثمار مع بكين. وبمعنى آخر، ترى العديد من دول الاتحاد الأوروبي أن فوائد زيادة الاندماج مع الصين يفوق مخاطره.

وتغير هذا الرأي بعد الجائحة العالمية. فبعد تعامل الصين السيئ مع تفشي الجائحة في بدايتها — بدءًا من التستر على الفيروس وصولاً إلى معاقبة المبلغين عن حالات الإصابة بالفيروس – إلى جانب التسييس العلني للمساعدات، أصبحت علاقة أوروبا مع الصين أقل جاذبية. وفي هولندا وإسبانيا وأماكن أخرى، أخرت المعدات الطبية الصينية المعيبة احتواء الفيروس، مما أثار ردود فعل غاضبة. وحتى في اليونان، التي كانت داعمة للصين منذ فترة طويلة، بدأ منحنى تأييد بكين في الانخفاض. وفي شهر آيار/ مايو، ألقى 44% من الشعب اليوناني باللوم على الصين في انتشار فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19”.

وبات السؤال، ما إذا كان تشويه صورة الصين سيحفز الاتحاد الأوروبي على تبني سياسة أكثر حزماً تجاه منافسه. وإذا كان الأمر كذلك، فستكون النتيجة مشروعًا أوروبيًا أقوى، وعودة الاتحاد الأوروبي إلى قوته المرتكزة على القيم. ولكن إذا استمر الوضع الراهن، فقد يصبح الاتحاد الأوروبي أضعف.

وتاريخياً، لم يكن لبروكسل تأثير كبير على الدول الأعضاء عندما يتعلق الأمر باتخاذ موقف موحد لمواجهة الخطط الصينية العدائية، بدءًا من الحوكمة الاقتصادية وصولاً إلى “استمالة النخبة” – من خلال تطوير العلاقات الشخصية في محاولة للتأثير على صنع السياسات المؤيدة للصين. وبينما تثير انتهاكات بكين لحقوق الإنسان في منطقة التبت وشينجيانغ وهونج كونج إدانة صامتة، فإن ورقة التجارة والاستثمار لها الغلبة منذ فترة طويلة على الأيديولوجية الليبرالية.

ولكن الآن، وبعد أن ساهم أسلوب الصين في الحكم إلى وفاة مئات الألوف حول العالم بشكل مباشر، لا يمكن إغفال أنشطة الصين بعد اليوم.

وفي بعض النواحي، رأينا أن الاتحاد الأوروبي أصبح أكثر حزماً. وفي آيار/ مايو، وقع أكثر من 100 سياسي من الدول الأعضاء على رسالة تدعم محاولة تايوان لحضور جمعية الصحة العالمية بصفتها مراقب، وكان الرد الصيني عنيفًا. وفي وقت سابق من هذا الشهر، كتب 57 برلمانيًا من 19 دولة أوروبية مقال رأي مشترك في جريدة “Euractiv” يربطون فيه بين فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” وقضية إقليم التبت. وكتبوا، “والآن بما أن … السرية والتضليل الذي مارسته الصين كان سببًا في انتشار الجائحة، لم يعد بإمكان العالم قبول عزلها لإقليم التبت، حيث يشهد الإقليم أزمة أخرى ذات آثار عالمية في الأفق”.

ولسوء الحظ، لم يكن الخطاب الأوروبي القوي ذي جدوى. فعلى سبيل المثال، بعد اجتماع وزراء الخارجية في 29 مايو لمناقشة تحركات الصين بشأن هونج كونج، تبين أن السويد فقط هي من طالبت بفرض عقوبات على الصين. وفي الواقع، وصف الممثل السامي للاتحاد للشئون السياسية، جوزيب بوريل، الصين “بالحليف”. وإذا أرادت أوربا أن تبعث برسالة إلى الصين في أي وقت مفادها أن أفعال الصين تحمل عواقب حقيقية، فعلى أوروبا أن تتبنى نهجًا أكثر توحدًا وصرامة.

وللوهلة الأولى، تبدو السياسة غير العقابية التي تنتهجها أوروبا سياسة منطقية. والصين هي ثالث أكبر شريك تجاري لدول الاتحاد الأوروبي. وفي عام 2019، صدر الاتحاد الأوروبي إلى الصين سلعًا بقيمة 198 مليار يورو، وما تزال ألمانيا، أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، عازمة على زيادة الوصول إلى السوق الصينية. كما جلبت بكين الأموال والاستثمار إلى وسط أوروبا وشرقها، حيث تحتاج تلك الدول إلى تدفق ثابت للنشاط الاقتصادي للتعافي بعد انتهاء الجائحة.

والواقع يقول بأن التهاون أمام الصين له عواقب وخيمة. ويشير الواقع أيضًا إلى إمكانية تعزيز الموقف التفاوضي للاتحاد الأوروبي ومكانته كقوة عالمية من خلال تقليل الاعتماد على سلاسل الامداد الصينية. وفي ذروة الجائحة، أوقفت أوروبا إنتاج كل شيء، بدءًا من السيارات إلى الأدوية بسبب انقطاع المواد الخام من الصين. وفي قطع هذه التبعية عن الصين والانفصال عن اقتصادها رسالة أقوى من أي بيان.

وتتزايد الدعوات لاتخاذ مثل هذا الإجراء. وفي ورقة سياسة حديثة للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أشار الخبير في الشأن الصيني “أندرو سمال” أن “تعامل بكين مع الجائحة قد غيّر الافتراضات الأوروبية القديمة حول مصداقية الصين كمنقذ في الأزمات، ونهجها تجاه المشروع الأوروبي”. وكان وزير المالية الفرنسي، برونو لو مير، من بين الذين يقترحون أن الوقت قد حان لتنويع سلاسل الامداد بعيدًا عن الصين.

ومن المؤكد أن الصين لن تتخلى بسهولة عن موطئ قدم لها في أوروبا. وما زال القادة المؤيدون للصين في أوروبا الشرقية يدعمون الاستثمار الصيني، وتعمل الدعاية الصينية على تعويض أي انخفاض في الرأي العام. وحتى البيروقراطيون الأوروبيون وقعوا ضحية الضغط الصيني. وفي أبريل، أوردت التقارير أن مسؤولو الاتحاد الأوروبي خففوا من حدة انتقاداتهم لدور الصين في الجائحة خوفًا من التداعيات الاقتصادية.

ولكن الاستمرار في التعامل بلطف مع الصين والاهتمام فقط بالتجارة سيكلف الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف شيئًا لا يمكن تعويضه بالأموال: وهو الدور القيادي والمكانة العالمية التي يتمتع بها الاتحاد الأوروبي كمدافع عن القيم الليبرالية. ويبدو أن المسؤول الحكومي التشيكي الذي تخلص من نسخة صحيفة “الصين يوميًا” يفهم ذلك، وعلى باقي قادة أوروبا تفهم ذلك أيضًا.

 

جريج سي برونو، مؤلف كتاب “بركات من بكين: داخل حرب القوة الناعمة للصين على التبت”. كان “جريج” عضوًا في مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، ومحررًا عمود رأي سابق لدى جريدة ذا ناشونال” في أبوظبي، و”بروجيكت سنديكيت” في براغ.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: