باتت منطقة الشرق الأوسط على أعتاب فوضى فيروس كورونا. وبما أن الفيروس قد مر بالفعل بالعديد من البلدان، فيمكن التنبؤ بتداعياته، وإن كانت لا تحصى: فالشوارع خالية، والأضرار الاقتصادية واسعة النطاق، ووقع الآلاف القتلى. ومع ذلك، هناك أزمة قادمة، أزمةً تتكشف متخفية خلف أبواب مغلقة: إنه التآكل التدريجي لروابط الأسرة والصداقة.

تأخذ جميع دول الشرق الأوسط تلك الروابط الاجتماعية على محمل الجد. إن الطقوس العادية – ويطلق علها البعض الطقوس المتأصلة – والمتمثلة في حفلات العشاء العائلية الضخمة، والمجالس، وحفلات الزفاف والاحتفالات، هي الطقوس التي تشكل نسيج الحياة اليومية. إنها تجمع الناس. والواقع أن هذه الروابط الاجتماعية الممتدة تشكل، من خلال انتشارها بين العائلات والعشيرة والمنطقة، الجانب الأكثر مرونة في المجتمعات العربية والشرق أوسطية. ومن الواجب بمكان أن يتوقف كل هذا مؤقتًا، إلى جانب التلامس بالأيدي، وتقبيل الخدين، والتعامل عن قرب، وسهولة التعايش الذي تتميز به الحياة العربية.

ومن الصعوبة بمكان أن يخضع المرء أينما كان لفترات طويلة من التباعد الاجتماعي القسري، وخاصة عندما لا يُنذر الأفق بنهاية واضحة لهذا الأمر. هناك قيودًا سارية في جميع دول المنطقة تقريبًا. وفي ظل انتشار الفيروس، وارتفاع عدد القتلى – كما هو متوقع وبشكل مأساوي – فلن تزداد القيود إلا صرامة، ويعني هذا المزيد من التباعد الاجتماعي، والعمل أكثر من المنزل، وفترات طويلة بدون فعاليات اجتماعية فاصلة أو مصاحبة.

وفي دول الشرق الأوسط، سيكون ثمة صعوبة في تطبيق الحظر والتباعد الاجتماعي على وجه الخصوص بسبب الدور الذي تلعبه الروابط الاجتماعية. وبادئ ذي بدء، تعمل الروابط الاجتماعية في جميع أنحاء المنطقة تقريبًا كشبكة أمان افتراضية للمجتمع بأكمله، وهذا بغض النظر عن مدى اتساع شبكة الأمان الاجتماعي التي توفرها الدولة.

ولن يشعر بالتداعيات المباشرة لهذا التباعد الاجتماعي واسع النطاق إلا المواطنون الأكبر سنًا والأكثر ضعفًا والعاطلين والمرضى وأصحاب الهمم. وغالبًا ما تعتمد تلك الفئات على الأصدقاء أو الجيران طلبًا للصحبة والمساعدة في شئون الحياة اليومية، بعد أن تسببت الهجرة الاقتصادية في انتقال أفراد العائلة المباشرين والأبناء والبنات إلى مدنٍ بعيدة. وفي المناطق البعيدة مثل جبال الأطلس، والقرى الريفية في مصر، والأبنية السكنية المزدحمة في لبنان، تعتبر الروابط الاجتماعية شريان الحياة لمن لا يشعرون بالأمن أو التوازن أو الاندماج المجتمعي بسبب نظام عملهم. وسيؤثر الحظر واسع النطاق بشكل أساسي على هؤلاء.

وسيؤدي الحظر أيضًا إلى تفاقم مشاكل الصحة العقلية في وقت باتت فيه الصحة العقلية واحدة من المشاكل الأكثر خطورة وتسترًا في المنطقة بسبب الحروب والاضطرابات الاجتماعية الهائلة.

وهناك أيضًا عواقب أقل وضوحا.

وتتسم معظم المجتمعات العربية والشرق أوسطية بمجموعة معقدة من التقاليد المجتمعية العلنية منها والسرية. وقد ثبت أن معظم تلك التقاليد يصعب تغييرها بشكل يبعث على السرور ويثير الغضب في الوقت ذاته.

ومن الأشياء الهامة، ونادرًا ما تُوضع في الاعتبار، هو توقع التفاعل بشكل منتظم. فعندما يعرف الأقرباء والأصدقاء أنهم سيجتمعون معًا على فترات منتظمة، فإن تصرفاتهم تكون مختلفة عن تلك المجتمعات التي تكون فيها مثل هذه التفاعلات أقل انتظامًا. وتختلف التقاليد المجتمعية عن بعضها بعضًا. وقد نتج عن حالة اللامبالاة المنمقة والأدب الرسمي ظهور مجتمعات أصبح التفاعل المنتظم هو السائد. وبصريح العبارة: لن يكون الحديث مع أفراد العائلة وشبكة الأصدقاء مجديًا إلا بالتأكد من انه سيتم الاجتماع بهم على مائدة العشاء في اليوم التالي أو نهاية هذا الأسبوع.

إن استبعاد التفاعل المنتظم فجأة سيغير من الديناميكيات الاجتماعية بطرق غير متوقعة. ومن مظاهر هذا التغير هو التخلص من رد الفعل الاجتماعي، وهو ذلك الإحساس الغامض والمستمر بأن ما يفعله الفرد ينعكس على الجماعة. ولتبسيط الأمور أكثر، يتعلق الأمر “بماذا يعتقد الجيران؟”. قد يبدو هذا التفكير ضيق الأفق وغير هام، ولكنه رابط حاسم في سلسلة أطول من التوقعات الاجتماعية. إن الانسحاب من الحيز العام يعني أيضًا تغييرات في السلوكيات التي كان هذا الحيز العام ضابطًا لها في وقت سابق.

قد يكون تآكل تلك الروابط الاجتماعية أمرًا مدمرًا. ولن نبالغ إذا قلنا إنه في تلك المنطقة التي عانت كثيرًا من الاضطرابات السياسية، كانت الروابط الاجتماعية واحدة من آخر الوسائل المتبقية لربط البلدان معًا. وبدءًا من التباهي الفردي بناطحات السحاب في الخليج، إلى مخيمات اللاجئين في سوريا، لا تزال الروابط الاجتماعية مصدرًا للراحة، وشكلًا من أشكال التقبل الاجتماعي.

لقد أثبتت الروابط الاجتماعية مرونتها، وقدرتها على لم شمل المجتمعات، حتى بعدما انتهت جوانب الحياة اليومية الأخرى – كما هو الحال في العراق وسوريا. لقد نجت تلك الروابط في ظل الأزمات عندما اختفت كل التوقعات الأخرى من حكومة فاعلة والأمن وتوفير الغذاء والكهرباء والمياه بصورة منتظمة.

ولكن إذا استمرت تلك الروابط الاجتماعية، فإنها في حاجة إلى تجديدٍ دوري. والحظر واسع النطاق لفترات طويلة ليس حربًا أو احتلالاً؛ إنه شيء يمكن تحمله دون بقاؤه. وبالنظر إلى تعامل الدول الآسيوية والأوروبية مع الحظر، سنجد أن دول الشرق الأوسط ستلجأ إلى سياسة الاحتماء، وتسعى للتغلب على هذه الأزمة، وبالتالي تعليق الحياة اليومية حتى انتهاء هذا الحظر.

ورغم ذلك، سيكون هذا التوجه خطأً. إذ قد تستمر عملية الحظر لفترة طويلة جدًا، لذا وبدلاً من ذلك، يجب على كل مجتمع صغير، أيًا كان، أن يجد سبيلاً للمحافظة على روابط الأسرة والصداقة تلك.

وبدون هذا التنشئة، قد يؤدي استمرار التباعد الاجتماعي لفترات طويلة إلى تآكل الروابط الاجتماعية، أي علاقة تلو الأخرى. إن حياة التفاعل المنتظم والتي اعتبرها عشرات الملايين أمرًا مسلمًا به – حتى ولو كانت تثير الاستياء في بعض الأحيان – يمكن أن تنتهي بسهولة. وعندما يترنح الشرق الأوسط في نهاية المطاف، كباقي دول العالم، بسبب هذه الجائحة، فقد يتحول إلى مكان مختلف وأكثر تفتيتًا. والحقيقة ان التقاليد الاجتماعية لتتهيأ لتغيرٍ لم تشهده منذ قرون.

 

يؤلف “فيصل اليافعي” حاليًا كاتبًا عن الشرق الأوسط، وهو معلق دائم لدى الشبكات الإخبارية التلفزيونية العالمية. عمل “فيصل” لدى وكالات أنباء مثل “الجارديان” و”بي بي سي”، وأعد تقارير عن الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: