أصبح من الشائع زيادة وتيرة التبني السريعة لأي تقنية جديدة رائدة، فعلى مدى العقدين الماضيين، شهدت المنصات والأدوات الجديدة، من (أيفون) إلى (تيك توك) معدلات تبني أسرع تدريجيا. ولكن معدل اعتماد (شات جي بي تي) وهو نموذج اللغة الكبير للذكاء الاصطناعي المملوك لشركة (أوبن أي آي) لا يشبه أي شيء رأيناه في السابق على الإطلاق، ففي غضون خمسة أيام من إصداره، كان لدى النظام الأساسي مليون مستخدم مستقل.
وأدى الارتفاع الكبير في عدد المستخدمين الجدد إلى طوفان من المقالات الفكرية والمناقشات حول مستقبل العمل في عالم قائم على الذكاء الاصطناعي، لقد انقلب العالم رأسا على عقب مع ادعاءات بأن (شات جي بي تي) هو البداية الصحيحة للعصر الذكاء الاصطناعي. إن التبني السريع لأدوات الذكاء الاصطناعي واضح في الأسواق الناشئة، حيث تهافتت الشركات والحكومات للتأكيد على استخدامها للذكاء الاصطناعي. والمشكلة هي أن منصات مثل (شات جي بي تي) لا تزال في مراحلها المبكرة، وفي حين أنه من الواضح أن الكثيرين حريصون على أن يقود الذكاء الاصطناعي مسيرة المستقبل، فإن الحقيقة هي أن التكنولوجيا ليست قريبة من تحقيق الذكاء الدقيق أو استخدام المنطق.
يتمتع العقل البشري بقدرة خارقة على استخدام كمية صغيرة من البيانات لإنشاء الأفكار واللغة والقدرة على التفكير، فعلي سبيل المثال قضية تطور اللغة عند الطفل، حيث يطور الأطفال اللغة من خلال الاستعانة ببعض الإشارات من العائلة والبيئة المحيطة، وتلك نظرة مبسطة على تطوير اللغة، ولكنها ضرورية لفهم حدود عمل (شات جي بي تي) مقارنة بالفكر البشري. وعلى عكس البشر، تقوم نماذج اللغة الكبيرة مثل (شات جي بي تي) بتحليل مجموعات البيانات الضخمة وإنتاج محتوى بناء على التخمينات حول الاتجاهات في البيانات التي يمكنها الوصول إليها، ولا يمكن للعقل البشري أبدا معالجة البيانات المطلوبة لعمل (شات جي بي تي)، ولن يتطلب الأمر الكثير من البيانات.
وفي قلب نهج الذكاء الاصطناعي المفتوح (أوبن أي آي) لبرنامج شت جي بي تي، توجد فكرة أن السلوك البشري يمكن التنبؤ به، ومن خلال تحليل مجموعات البيانات الكبيرة، يمكن لخوارزمية (أوبن أي آي) تخمين ما نفكر فيه أو نبحث عنه في طيات الإجابة. وفي حين أنه قد يكون لدينا رد فعل غير محسوب على الادعاء بأن السلوك البشري يمكن التنبؤ به، لكن يجب التفكير في تأثير ما يقرب من عقدين من استخدام الإنترنت والهواتف الذكية على البشر. ويمكن التنبؤ بسلوكنا بشكل متزايد لأننا سمحنا للخوارزميات بتشكيل ما نقرأه ونستوعبه على الإنترنت، ويمكن لميزات مثل الإكمال التلقائي من (قوقل) في Gmail التنبؤ بدقة بما نريد كتابته بدرجة مذهلة. علاوة على ذلك، فإن اتجاه السفر واضح لأننا نقضي المزيد والمزيد من الوقت على هواتفنا، فمتى كانت آخر مرة زرت فيها مكتبة أو مكتبة وصادفت بالصدفة كتابا لم تكن تعرف أنك تبحث عنه؟
في حين أننا قد نصبح أكثر قابلية للتنبؤ، إلا أن أدوات الذكاء الاصطناعي لا تزال تفتقر إلى القدرة الأساسية على التفكير، كما أوضح اللغوي نعوم تشومسكي مؤخرا في صحيفة نيويورك تايمز حيث قال: “في حين أن البشر محدودون في أنواع التفسيرات التي يمكنهم تخمينها بعقلانية، فيمكن لأنظمة التعلم الآلي أن تتعلم أن الأرض مسطحة وأن الأرض كروية في نفس الوقت. إنهم يتعاملون فقط مع الاحتمالات التي تتغير بمرور الوقت، ولهذا السبب، ستكون تنبؤات أنظمة التعلم الآلي دائما سطحية ومشكوك فيها “.
ولا ينبغي لذلك أن يقوض القيمة المذهلة لـ شات جي تي بي وأدوات الذكاء الاصطناعي الأخرى، والتي تستخدم قوة حوسبة رائعة لتسخير قدرتنا المتزايدة على التنبؤ عبر الإنترنت، ومع ذلك، فإن التبني المفرط لتلك التقنيات يغفل تماما هذه النقطة الحيوية حول التنمية البشرية وتأثيرها على المجتمع.
وهناك أيضا العديد من القضايا الأخلاقية الأخرى المرتبطة بالتبني السريع لهذه التقنيات، ففي أحدث ورقة بيضاء لإطلاق شات جي بي تي 4، أشارت شركة أوبن أي آي إلى أن “أنظمة الذكاء الاصطناعي سيكون لديها إمكانات أكبر لتعزيز الأيديولوجيات بأكملها، ووجهات النظر العالمية والحقائق والأكاذيب وتعزيزها أو ترسيخها، مما يمنع التنافس والتفكير والتحسين في المستقبل ” وهذه أشياء تثير الخوف، خاصة في ضوء التطورات الأخيرة مثل إقالة شركة مكرسوفت لفريق أخلاقيات الذكاء الاصطناعي بالكامل والنقص العام في معايير الأخلاق في تطوير الذكاء الاصطناعي.
ولن تثار المناقشات الساخنة الأخلاقية إلا في ضوء النقطة الحرجة التي أثارها تشومسكي وهي أن شات جي بي تي وأدوات الذكاء الاصطناعي الأخرى “غير قادرة دستوريا على تحقيق التوازن بين الإبداع والحضر، إنهم إما يفرطون في الانتاج (إنتاج كل من الحقائق والأكاذيب، وتأييد القرارات الأخلاقية وغير الأخلاقية على حد سواء) أو الحضر (إظهار عدم الالتزام بأي قرارات وعدم الاكتراث بالعواقب).
وتشمل الصورة المستقبلية المزدهرة في الذكاء الاصطناعي في إطار التعاون بدلا من الاستحواذ الكامل أو الاستعانة بمصادر خارجية. ويمكن أن تساعدنا تلك الأدوات في إنتاج عمل من جميع الأنواع بشكل أكثر كفاءة، لكنها لا يمكن أن تحل محل العقل البشري. على سبيل المثال، سهل أيفون التواصل بشكل أفضل وجعل العالم أكثر سهولة ولكنه لم يغير جوهريا كيفية عملنا، وعليه لن يغير شات جي بي تي طبيعة العمل أيضا.
إن الشركات والحكومات التي تسارع إلى قلب نماذج عملها لتتكيف مع التكنلوجيا الحديثة، سيكون من الأفضل لها التريث والتفكر في المزيد من عمليات الدمج للذكاء الاصطناعي بصورة تدريجيه، وسيكون هذا تحديا نظرا لمدى قوة دفع قطاع التكنولوجيا لـ شات جي بي تي، لكن الفكرة المستحدثة ستتلاشى في النهاية وسيتم استبدالها بفكرة أخرى. يجب أن نستغل هذه الفرصة كمجتمع للتفكير في طبيعة الذكاء البشري وكيف يتم تغييره في عصر التكنولوجيا.
جوزيف دانا هو كبير المحررين السابقين في إكسبونانشال فيو، وهي جريدة إخبارية أسبوعية حول التكنولوجيا وتأثيرها على المجتمع، كما شغل منصب رئيس تحرير إميرج 85، وهو مركز يستكشف التغيير في الأسواق الناشئة وتأثيره العالمي.
تويتر: @ibnezra