غالبًا ما توصف منطقة البلقان بأنها جسر تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، لكن بقت تركيا لسنوات عديدة في الظل على الصعيد الجيوسياسي رغم أنها دولة من دول البلقان، وصورت نفسها على أنها راعية مسلمي البلقان، واشياء من ذلك القبيل.

ومع انشغال الاتحاد الأوروبي حاليا بالتعامل مع أزمة طاقة وسط الحرب في أوكرانيا، تتطلع تركيا إلى تعميق علاقاتها مع منطقة البلقان، وفي المقابل ننظر المسلمون والمسيحيون في البوسنة والهرسك وصربيا وأماكن أخرى إلى تركيا وفق المنظار التركي وهو: أن تركيا شريك مؤثر وغير متحيز.

قال “ميلوراد دوديك” وهو العضو الصربي في الرئاسة المشتركة للبوسنة والهرسك خلال زيارة الرئيس التركي إلى سراييفو الأسبوع الماضي: “أنا لست ساذجًا وأعلم أن … [الرئيس التركي رجب طيب] سيكون دائمًا منحاز للمسلمين البوسنيين، لكنه يحترم الجميع وطالما أن سياسته على هذا النحو، فسأحترمه”.

وهدفت زيارة أردوغان إلى سراييفو إلى تعزيز الروابط الاقتصادية بين تركيا والمنطقة، مع تعهدات بتحفيز التجارة الثنائية مع البوسنة والهرسك وإيصالها إلى مليار دولار سنويًا، والذي يمثل ارتفاعًا من 845 مليون دولار في عام 2021، وكانت إحدى نتائج الرحلة هي فتح خطوط السفر من دون جواز بين تركيا وصربيا، وتركيا والبوسنة والهرسك.

كما أعرب أردوغان عن التزامه بالمشاركة السياسية بشكل أكبر في البلقان من خلال المساعدة في التوسط في أزمة دستورية متنامية في البوسنة والهرسك، والتي جاءت نتيجة للمنافسات القائمة والمصالح المتعارضة بين المجموعات العرقية الثلاث التي تعيش في البلاد وهي البوشناق والصرب والكروات.

ولا تزال البوسنة والهرسك تحكمها شروط معاهدة السلام التي تم عقدها في عام 1995 المعروفة باسم اتفاقيات دايتون، والتي قسمت البلاد إلى كيان بوسني-كرواتي – يسمى اتحاد البوسنة والهرسك، وكيان ذو أغلبية صربية يسمى جمهورية صربسكا. ولكن الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي في البوسنة والهرسك هو الذي له الكلمة الأخيرة في البلاد، وليس القادة المحليين، وفي حين أنهت الاتفاقيات الحرب بين جمهوريات يوغوسلافيا السابقة، لكن يرى النقاد اليوم أن تلك الاتفاقية هي بحكم الواقع استعمار جديد.

حتى أن أردوغان أشار إلى ذلك الموضوع في الأسبوع الماضي، عندما قال للصحفيين في سراييفو إن ممثل الاتحاد الأوروبي “كريستيان شميدت” تمادى من خلال تقديم طلب تعديل لقانون الانتخابات الفيدرالية في البوسنة والهرسك، وقال أردوغان إن شميدت “لا ينبغي أن يتدخل في تلك العملية“.

وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لا يزالان يمثلان القوى الأجنبية الرئيسية العاملة في البلقان، لكن تركيا تغتنم الفرص حيثما أمكنها ذلك، حيث أعرب أردوغان عن اهتمامه بعقد قمة ثلاثية مع صربيا والبوسنة والهرسك.  وتناقلت الأنباء أن تركيا وصربيا اتفقتا أيضًا على التوسط بين قادة البوسنيين والكروات والصرب في يناير الماضي في محاولة لإنهاء حالة الجمود في البوسنة والهرسك، وإذا أجريت المحادثات، والجائز عقدها في اسطنبول، فإن أردوغان سيستخدم القمة بلا شك للحفاظ على وحدة أراضي البوسنة والهرسك.

من المؤكد أن تركيا وصربيا لا تربطهم علاقة دافئة، حيث كانت تركيا من بين أوائل الدول التي اعترفت باستقلال كوسوفو من جانب واحد عن صربيا في عام 2008، ولكن على عكس الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لم تضغط تركيا أبدًا على صربيا للاعتراف بسيادة كوسوفو، مما ترك الباب مفتوحًا لأنقرة وبلغراد لتعزيز العلاقات الثنائية يومًا ما.

ويبدو أن ذلك اليوم المشهود قد حان، حيث تعمل حاليًا أكثر من 1300 شركة تركية في صربيا، وتوظف حوالي 8000 فرد، وبلغ الميزان التجاري بين البلدين في العام الماضي 1.73 مليار دولار، وتأمل بلغراد الآن في تطوير التعاون العسكري مع أنقرة.

وعلى سبيل المثال، من المتوقع أن يجري البلدان تدريبات عسكرية مشتركة قريبًا، في حين كانت صربيا مهتمة بشراء طائرات بدون طيار تركية الصنع من طراز ” بيرقدار ” منذ عام 2020، عندما أثبت تلك الطائرات المتطور فعاليتها في الصراعات من ليبيا وسوريا إلى ناغورنو كاراباخ.

وقال الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش خلال مؤتمر صحفي مشترك مع أردوغان الأسبوع الماضي “نحن لا نخفي أي شيء … صربيا تخطط لشراء طائرات بدون طيار من طراز بيرقدار، نحن نعلم أن العالم كله يريد شرائها، لذلك نحن ننتظر مع الأخرين.”

وظهر التزام تركيا بالاستقرار الإقليمي في تاريخ 2 سبتمبر، عندما تحدث وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عن مبادرة البلقان المفتوحة، وهي تحالف اقتصادي وسياسي بين ألبانيا ومقدونيا الشمالية وصربيا، ومن بين التعهدات التي قدمها كافوس أوغلو هو تعهد بمساعدة الكتلة على تلبية احتياجاتها من الطاقة هذا الشتاء.

وبالنسبة للقيادة الصربية، تمثل الأنشطة السياسية والاقتصادية التركية في البلاد “عصرًا ذهبيًا” للعلاقات بين بلغراد وأنقرة، وقال فوتشيتش: “سنحرص على الحفاظ على صداقتنا على أعلى مستوى، وسنحمي تلك العلاقات بكل جد”.

ومع ذلك، ونظرًا لأن صربيا لديها عجز تجاري مع تركيا، كما هو الحال مع كل دول البلقان الأخرى باستثناء سلوفينيا، فإن أنقرة في الواقع هي التي تستفيد أكثر من تعاونها الاقتصادي المتنامي في المنطقة.

ومع ذلك، فإن تركيا تقدم نفسها حاليًا على أنها جهة فاعلة محايدة، على الرغم من أن ذلك الموقف قد لا يدوم إلى الأبد، كما تظهر تركيا اهتمامها بممارسة الأعمال التجارية مع جميع الأطراف، وقال أردوغان قبل زيارته الأسبوع الماضي: “إن موقف بلادنا المتوازن والعادل تقدره وتثمنه جميع شعوب المنطقة، وسنواصل تبني هذا الموقف في الفترة المقبلة أيضا”.

 

نيكولا ميكوفيتش محلل سياسي في صربيا، ويركز عمله في الغالب على السياسات الخارجية لروسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، مع اهتمام خاص بالطاقة و “سياسات خطوط الأنابيب”.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: