ظل تغيير النظام الإيراني السيناريو الأمثل للمحافظين داخل دوائر السياسة الخارجية الأمريكية. وقد تدفع العوامل التي تنشط حاليًا في المشهد الإيراني بالبلاد إلى وضع يتحتم معه تغيير النظام، بشرط ألا يكون هذا النظام متماشيًا مع المصالح الأمريكية.
وعلى مدار العام 2018، اجتاحت الاحتجاجات المدن والبلدات الإيرانية اعتراضًا على تدهور الوضع الاقتصادي، ومن المحتمل أن تتفاقم تلك الاحتجاجات مع إعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران. وعلى عكس الاحتجاجات السابقة التي شهدتها البلاد في العام 1999 و2009، والتي قادتها الطبقة الوسطى التي تعيش في الحضر، وتركزت أغلبها في المدن الإيرانية الرئيسية، تختلف الاحتجاجات الحالية اختلافًا شاسعًا من حيث مكونها الاجتماعي وانتشارها الجغرافي، اذ ان من تزعم تلك الاحتجاجات كانوا ممن يعدون موالون للنظام– ومنهم ذوي الياقات الزرقاء أو العاملين في الأسواق أو التجار، فضلاً عن انتشار تلك الاحتجاجات على نطاق أوسع – في المدن الصغيرة والقرى، ومراكز الحج الهامة كمدينة “مشهد”، والتي يستمد منها النظام الإيراني يستمد منها مشروعيته الدينية حتى الآن. والآن، شهدت الاحتجاجات، في حالات عدة، تحولاً من احتجاج على الاقتصاد المتدهور، إلى احتجاج ضد النظام نفسه. واندلعت أحدث الاحتجاجات في شهر ديسمبر، وتصدرها مجموعات مختلفة منها عمال مجمع الصلب في الأهواز، ونقابات المعلمين في أصفهان، والطلبة في طهران.
وأعربت شخصيات حكومية بارزة في طهران على الملأ عن تخوفها من احتمالية استمرار الاحتجاجات هذا العام في ظل سعى الحكومة للتعامل مع هذا الاقتصاد المتردي. ومن المحتمل أن تصحب تلك الاحتجاجات صراع متواصل داخل الطبقة السياسية في إيران. وفي حقيقة الأمر، أدى انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي الإيراني، والافتقار إلى الاستثمار الأجنبي من أوروبا، إلى إضعاف الرئيس “حسن روحاني” سياسيًا، علمًا بأن روحاني قد أعلن أن الاتفاق النووي والمكاسب الاقتصادية غير المتوقعة هي واحدة من أبرز إنجازات حكومته على مستوى السياسة الخارجية.
هذا وقد كثف المحافظون الإيرانيون بزعامة المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله علي الخامنئي، هجومهم السياسي على “حسن روحاني” وفصيله المعتدل، واصفين إياهم بالسذج في معرفتهم بالسياسة الخارجية. ومن المحتمل أن يستمر التشهير السياسي بين الفصائل السياسية في إيران في نفس الوقت الذي يتأهب فيه نظام الحكم الإيراني للمرور بفترة مضطربة من خلال الانتخابات البرلمانية والرئاسية المزمع عقدها في العام 2020 و2021 على التوالي، ومن خلال عدم وضوح الأفق بشأن خليفة خامنئي البالغ من العمر “79” عام. ومن الممكن ان يزيد انعدام الاستقرار السياسي وما يتبعه من شلل سياسي، من وتيرة الاحتجاجات المستمرة في البلاد مما يهدد شرعية الطبقة السياسية الإيرانية بأكملها في عين المواطن العادي.
ورغم هذا، فانه من المستبعد أن يؤدي الإطاحة بنظام الحكم في إيران إلى التحول الى نظام مقبول لدى الولايات المتحدة الأمريكية. ورغم أن إعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران أدى إلى تعقيد الوضع الاقتصادي في إيران، فمن المحتمل أن تكون الخيارات الإستراتيجية الأمريكية من حيث فك الارتباط مع دول الشرق الأوسط بشكل أوسع ذات فائدة لإيران.
وحتى من دون الإعلان الأخير للرئيس ترامب بخصوص انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، فقد مرت حرب الثمانية أعوام ببطء لكنها آلت فعليًا في نهاية المطاف لصالح نظام الأسد. وتعتبر طهران أن هذا الانسحاب نصرًا إستراتيجيًا هامًا، ومن شأنه أن يزيد من قوة القائد المغوار قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، الزراع الخارجية للحرس الثوري الإيراني.
ويتمتع سليماني، والذي كان موضوع العديد من البرامج الوثائقية والأغاني المتملقة في إيران، بمكانة مرموقة لإنجازاته غير المسبوقة، ويعتبره الكثيرون مهندس الحملات الإيرانية الناجحة ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، والمسؤول عن تحويل دفة الحرب الأهلية السورية لصالح نظام الأسد، وبهذا، حقق سليماني الهدف الرئيسي للإستراتيجية الإيرانية. وتلقى سليمان عرضين سابقين في العام 2013 والعام 2017 ليكون مرشحًا محتملاً للرئاسة، إلا أنه رفض هذا العرض من أجل التركيز على حملاته العسكرية في العراق وسوريا.
ورغم هذا، فمن الممكن أن يتدخل سليماني بحزم في المجال السياسي الإيراني، وذلك في حال خرجت الاحتجاجات عن السيطرة. وكان سليماني قد هدد في وقت سابق بالتدخل في السياسات الداخلية لإيران. وفي العام 1999، عندما اندلعت في طهران احتجاجات طلابية مناهضة للحكومة، شارك سليماني في كتابة خطاب إلى الرئيس آنذاك “محمد خاتمي”، محذرًا إياه تحذيرًا غير مباشر بالانقلاب على الحكومة المنتخبة إذا فشلت في سحق الاحتجاجات.
ويتميز سلماني أيضًا بأنه سياسي ماهر، وله دور بارز في العراق بعد الانتخابات العامة الأخيرة حيث وحد بصعوبة ائتلاف الأحزاب السياسية الموالية لإيران لمواجهة الكتلة القومية الشيوعية الفائزة في الانتخابات.
وفي حالة تصاعد الاحتجاجات، فإن مكانة سليمان المرموقة على الساحة السياسية في إيران، ودوره البارز في تشكيل سياسة إيران الخارجية، وشعبيته داخل المجتمع الإيراني، ستجعل من موافقة “خامنئي المريض” على التدخل العسكري بقيادة سليماني نقطة خلاف.
ومن المحتمل أن تتبنى إيران في ظل حكومتها التي يهيمن عليها العسكريون نهجًا سياسيًا قصير الأجل للتعامل مع الوضع الاقتصادي في البلاد، والسبب في ذلك هو أن فيلق الحرس الثوري الإيراني سيكون أكثر استعداداً للالتفاف على عملية رسم السياسة الدستورية الجامدة في إيران، وبسبب الهيمنة الفعلية لفيلق الثورة الإسلامية على الاقتصاد في البلاد، فبإمكان الفيلق إجراء إصلاحات اقتصادية بسهولة. وعلى صعيد السياسة الخارجية، من المحتمل أن ترسخ إيران بقيادة قاسم سليماني وجودها في الصراع الدائر في الشرق الأوسط. ويقع على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية وحكومات المنطقة أن تضع هذا الاحتمال الواضح ضمن حساباتها الإستراتيجية خلال العام 2019 وما بعده.
PHOTO BY HO/KHAMENEI.IR/AFP