مثله مثل الديماجوجيين على مستوى العالم لجأ إمانويل ماكرون إلى السخرية من الأقليات لإنقاذ مستقبله السياسي الذي بات على المحك.
ففي شهر أكتوبر اتهم الرئيس الفرنسي المسلمين الذين يبلغ عددهم 6 ملايين على مستوى البلاد تقريبًا بتبنيهم ثقافة تُخالِف القيم الفرنسية، ووصل بماكرون الحد إلى التصريح بأن الإسلام يعيش أزمة على مستوى العالم وأن الدولة الفرنسية ستقوم بتحرير مسلمي البلاد من النفوذ الأجنبي، والواقع أن التصريح الأول الذي صدر عن ماكرون هو تصريح خاطئ وينم عن جهل خطير بالوقائع الأساسية، فالإسلام شأنه في ذلك شأن جميع الأديان لا يعد مجرد كتلة صماء بل أنه يتمتع بالمرونة.
ثانيًا، وعبر تعليق ماكرون الذي اتهم فيه مسلمي فرنسا بتشكيل ثقافة مُخالِفة للمجتمع الفرنسي والتعهُد الذي أعلنه بتحريرهم من النفوذ الأجنبي؛ فقد فعل ماكرون شيئين اثنين: فقد صوّر مسلمي فرنسا على أنهم كتلة “أخرى” كبيرة منفصلة ومستقلة عن باقي المواطنين الفرنسيين، والشيء الثاني هو أن ماكرون وعبر التعهُد الذي أعلنه بتحرير مسلمي فرنسا من النفوذ الأجنبي فقد تحدث بلُغة كان يستخدمها المستعمرون الأوروبيون، فقد استخدم هؤلاء أيضًا مصطلح “مهمة التحضُر” كمبرر للاستعمار الجشع الذي مارسوه في إفريقيا وآسيا. وكذا فإن ماكرون عبر هجومه على التيار التقدمي لمسلمي فرنسا فإنه ودولته يعملان على دعم الأصوات المحافظة داخل المجتمع الفرنسي.
وعقب الهجومين الإرهابيين اللذين قام بهما متطرفون إسلاميون مؤخرًا، أعلن ساسة فرنسا ووسائل الإعلام فصلًا جديدًا من الحرب على الإسلام والمسلمين. وفي خضم الجائحة التي انتشرت على مستوى العالم، بدأ ماكرون في تضييق الخناق على الطلبة المسلمين الذين يدرسون من المنزل، وأعلنت حكومته عن خطط تقضي بحل المنظمات غير الحكومية التي تعمل على محاربة الإسلاموفوبيا، وهذا يحدث في دولة تعُد معقلًا ل”نظرية الاستبدال” التي تعمل على تغذية الإسلاموفوبيا والتي وضعها المتطرفون من ذوي العرق الأبيض على مستوى العالم، والتي أشار إليها صراحة الإرهابي الذي ارتكب مذبحة كريّست تشيرش في نيوزيلندا العام الماضي.
وقد أشار ماكرون إلى الخطر الذي يتهدد العلمانية أو “لايسيتيه” وهو المصطلح الشائع في فرنسا، باعتبارها سببًا يدعو للحذر من “النزعة الانفصالية الإسلامية”، وماكرون على حق فيما يخص وقوفه إلى جانب العلمانية باعتبارها ركيزة للمبادئ الفرنسية، إلا أن العلمانية كانت نتاجًا للصراعات ضد الكهنة التي جرت في القرن التاسع عشر، وتم تقنين العلمانية في عام 1905 وحينها كانت فرنسا تتمتع بأغلبية من ذوي البشرة البيضاء، وبكونها دولة كاثوليكية وليست دولة متعددة الأعراق والأديان كما هو الحال اليوم.
والعلمانية الفرنسية وعلى العكس من نظيرتيها الأمريكية والبريطانية على سبيل المثال؛ تبدو غير قابلة لاستيعاب التعددية الثقافية، أو أنها لم تنشأ لهذا السبب من الأساس، وربما لهذا السبب فإن الدولة الفرنسية لا تعمد إلى جمع المعلومات حول العرق أو الدين حين يتم إحصاء عدد السكان. وهذا التوجُه يعُد متحجرًا بل أنه متعصبًا، والالتزام بالعلمانية ربما يعُد قناعًا يخفي وراءه أسلوب الدولة الفرنسية الذي يُظهِر عدم الارتياح للتغيرات المجتمعية. وما يمكن إخفاءه عن العيان لا يستلزم بذل مجهود كبير من أجل اكتشافه، وهذا هو ما يفسر جهود الدولة الفرنسية من أجل منع المظاهر الدينية (مثل الحجاب) في المدارس والمؤسسات العامة.
والواقع أن الدولة لم تنخرط أبدًا في حوار متبادل مع مجتمعات المهاجرين حول تشكيل مفهوم جديد يتسم بالعمومية والتعددية للهوية الفرنسية، التي تستوعب مسألة التعبير عن الدين وتحتفظ في الوقت ذاته بالمثل العليا الأساسية للدولة.
وتعد الجريمة والتطرف بين الشباب مشكلة تنتشر في الأحياء التي يعيش بها المهاجرون، والسبب في هذا الأمر لا يكمن في انتماء هؤلاء المهاجرين بل يكمن في علاقتهم مع الدولة والمجتمع. حيث يعاني المهاجرين من العنصرية والروتين فيما يخص التوظيف والإسكان، كما يواجهون الوحشية والعنصرية الممنهجة من قِبل الشرطة.
والدولة التي ترفض مجرد إدراك مسألة العرق والدين، بل أنها تكتفي بممارسة الغطرسة ضد هؤلاء المهاجرين في كل مناسبة، تعُد جزءًا من المشكلة وليست الحل. ففي الحادي والثلاثين من أكتوبر، نشر ماكرون تغريدة جاء فيها :”العلمانية لم تقتل أحدًا قط”.
وتلك التغريدة كانت صادمة للغاية، ليس فقط كونها تمثل تعصّبًا أعمى يفتقر للدقة لكن أيضًا لكونها تتجاهل الحقائق التاريخية بشكل تام.
وتعمل الدولة الفرنسية على تبرير مشروعها الاستعماري في الجزائر في سياق “مهمة التحضُر”، الذي ربما يعمل أيضًا على تصوير الجزائريين في إطار مفهوم العلمانية. فخلال الفترة من الغزو الفرنسي للجزائر في عام 1830 وتحويل الأخيرة إلى “مستعمرة” في عام 1875، قُتِل ما لا يقل عن 825 ألفًا من الجزائريين. وخلال حرب الاستقلال الجزائرية قُتِل حوالي مليون ونصف المليون جزائري، وشمل هذا الأمر هجمات استهدفت الجزائريين على الأراضي الفرنسية، بما فيها مذبحة باريس المشينة التي جرت في عام 1961، وفي عام 2018 اعترفت فرنسا بتنفيذ حملة تعذيب ممنهجة أثناء حرب الاستقلال الجزائرية.
وخلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، قامت فرنسا بإحضار عدد هائل من العمالة الرخيصة من الشمال الأفريقي، وقامت بتوطين هؤلاء في مستوطنات متهالكة على أطراف المدن الفرنسية، وأحفاد هؤلاء المهاجرين يتعرضون للعنصرية اليوم بدعوى فشلهم في دمج أنفسهم داخل المجتمع الفرنسي، وهذا الأمر يذكّرنا بالدعاية الفرنسية إبان الاستعمار.
وفي الماضي أعلن ماكرون عن ندمه بسبب الاستعمار الفرنسي، كما اعترف أيضًا بالعنصرية الممنهجة ضد مجتمعات المهاجرين فيما يخص الإسكان والتوظيف، فما الذي يفسر موقفه الحالي؟!
ربما تكمن الإجابة في السياسة المتعلقة بالانتخابات، وشأنه شأن الأشخاص الذين يلجؤون إلى الألاعيب السياسية على مستوى العالم، فقد لجأ ماكرون إلى السخرية من الأقليات بغرض تطويق منافسيه السياسيين، والتشهير بالمجتمع الإسلامي سوف يساعده على جلب أصوات اليمين المتطرف واليسار المناهض للإسلام، فنتائج استطلاعات الرأي فيما يخص ماكرون منخفضة على طول الخط، ويعود الأمر بالأساس إلى الأخطاء التي قامت بها حكومته في مواجهة جائحة كورونا (كوفيد-19)، علاوة على ذلك فقد شهدت فرنسا احتجاجات مناهضة للحكومة منذ عام 2018، وقد اندلعت الاحتجاجات لأسباب متعددة منها عنف الشرطة ورفع أسعار الوقود والإصلاحات التي طالت منظومة المعاشات.
وماكرون الذي اتبع منهج ألاعيب دونالد ترامب ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، اختار اللجوء للعبة الهوية السياسية، وذلك بغرض إعادة انتخابه في عام 2022، والمثير للقلق أن حلمه بات بعيد المنال.
دنيانيش كامات، محلل سياسي، عمل في شئون الشرق الأوسط وجنوب آسيا، ويقدم أيضًا استشارات للحكومات حول المبادرات السياسية والاستراتيجية لتعزيز نمو الصناعات الإبداعية كالإعلام والترفيه والثقافة.