تعرضت أول أربع سفن للتخريب في مرسى قبالة ميناء الفجيرة الإماراتي. والآن، وبعد مرور شهر، تعرضت ناقلتين نفط للهجوم وذلك على بعد حوالي 100 كم قبالة الفجيرة. فلو افترضنا أن ما حدث كان فيلما سينمائيًا، فسنشهد مشاهد تحضيرية تتجه فيها الدول القوية حتمًا نحو صراع كبير. غير أن ما يحدث ليس فيلمًا سينمائيًا، ومعناه أن الصراع سيعقبه تسوية على النحو الذي يدعو للاطمئنان. وتلك هي الحياة الحقيقية، والتي يتوقف فيها حياة عشرات الآلاف من الأشخاص على القرارات التي يجري اتخاذها الآن في عواصم العالم بدءًا من واشنطن وصولاً إلى تلك الموجودة في الخليج.
وهناك شخص ما، في مكان ما، يحاول إشعال النار في منطقة الخليج. ولكن مهما كان هذا الشخص، فليس هذا هو الوقت المناسب لردود الفعل السريعة غير المتعقلة. وتشكل منطقة الخليج واحدة من أكثر مناطق العالم تسليحًا، ولهذا، من الضرورة بمكان أن تحافظ جميع الدول على هدوئها.
إن كل ما حدث على مدار الشهر الماضي تقريبًا يحتاج إلى تمحيص دقيق.
ففي 9 مايو، حذرت إدارة البحرية الأمريكية هيئة الشحن الأمريكية من تهديد إيراني غير محدد لـ”السفن التجارية، بما في ذلك ناقلات النفط” في البحر الأحمر أو مضيق باب المندب أو الخليج العربي. وجاءت هذه النصيحة بعد أربعة أيام من إعلان الولايات المتحدة الأمريكية أنها سترسل مجموعة قتالية على متن حاملة الطائرات إلى المنطقة استجابةً لعدد من التحذيرات المتشابهة وغير المحددة من إيران.
وبعد ثلاثة أيام من التحذير الذي أصدرته إدارة البحرية الأمريكية، وحتى بينما كانت السفينة الأمريكية أبراهام لنكولن تمر عبر قناة السويس، تعرضت للهجوم أربع ناقلات نفط ترسو قبالة ميناء الفجيرة في الإمارات، فيما بدا أنه هجوم تخريبي محدود ولكنه نُفذ بتنسيق وطريقة غريبة، حيث تعرضت السفن لأضرار طفيفة ولم يتأذى أحد.
وفي تقرير حصل عليه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بتاريخ 7 يونيو / حزيران، خلصت الدول الثلاث التي تنتمي إليها الناقلات – وهي المملكة العربية السعودية والنرويج والإمارات العربية المتحدة – إلى أنه “من المحتمل جدًا” استخدام الألغام الملتصقة، وأن المسؤول عن هذا الهجوم كان “في الغالب” مسؤولاً بإحدى الدول. لقد التزمت الدول الثلاث بضبط النفس إلى أقصى درجة من خلال الامتناع عن تسمية إيران، رغم أن المسؤولين في واشنطن والرياض قد صرحوا بذلك فعلاً.ومازال هناك سؤال مرتبطًا بهذا الاتهام، وهو: هل ستسمح طهران بمثل هذا العمل الاستفزازي في وجود مجموعة القتال على متن حاملة الطائرات الأمريكية، والتي أرسلها الرئيس الأمريكي من منطلق أن التعامل بقسوة هو مفتاح مستقبله السياسي؟. وكان لهجمات يوم الخميس [13 يونيو] الواضحة، والتي وقعت تحت أسماع وأنظار حاملة الطائرات الأمريكية يو إس إس أبراهام لنكولن، والتي كانت تتمركز جنوب مضيق هرمز، أن تكون خطوة طائشة وأكثر جرأة من جانب إيران. و سيرفض الرأي العام السائد، باعتبارها مؤامرة، التنظير لأي تلميح بأن عملاء الولايات المتحدة ربما كانوا مسؤولين عن الهجمات لشيطنة الإيرانيين قبل الحرب. ومع ذلك، لن يجد الإيرانيون صعوبة في تصديق مثل هذه النظرية، وهنا يكمن خطر التصعيد المميت الذي يهدد الخليج حالياً. ويتذكر الإيرانيون أن انقلاب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية هو من أطاح برئيس الوزراء المنتخب ديمقراطياً في عام 1953. وبفضل الوثائق السرية التي كُشف عنها في عام 2013، بات الإيرانيون يعلمون أيضًا أن السبب في عملية “أجاكس” كان تأميم محمد مصدق لصناعة النفط الإيرانية، والتي كانت حتى الانقلاب تصب في مصلحة شركة النفط الأنجلو فارسية (والمعروفة اليوم باسم “بريتيش بتروليوم”) أكثر من إيران.وأطاح الانقلاب بالملكية الدستورية في إيران، وأعاد السلطة المطلقة إلى الشاه. وكان برنامج الحداثة السريعة التي تبناها الشاه، وسانده في ذلك ممارسات البوليس السري الوحشي، قد أساءت إلى مشاعر الكثير من الإيرانيين، وأدى ذلك إلى ثورة عام 1979، وعودة المرشد الأعلى “آية الله الخميني” من المنفى واعتلاؤه السلطة. ولهذا من الضرورة بمكان أن يكون هذا التاريخ وما ترتب عليه من انعدام ثقة الإيرانيين في الازدواجية التي تنتهجها الولايات المتحدة في عقل وقلب كل شخص يميل إلى اعتبار الحرب مع إيران ستكون أي شيء عدا أن تكون خطأً كارثيًا.وفي العراق، حيث سعد الكثير منهم برحيل صدام حسين، ورغم ذلك، فقد أدى الغزو الذي تقوده الولايات المتحدة إلى مقتل مئات الآلاف من المدنيين، وظهور تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وتدمير اقتصاد البلاد، وتبديد الاستقرار الإقليمي.
ولكن الحرب مع إيران ستكون حربًا لم تشهد تلك المنطقة التي أنهكتها الحرب مثيلاً لها قبل ذلك. وتبلغ مساحة إيران ضعف مساحة كبرى جيرانها، ولديها نصف مليون مواطن مسلح، ولديها القدرة العسكرية الكافية، حتى وإن هُزمت في نهاية المطاف، على إلحاق أضرار جسيمة بالبنية التحتية الحيوية لحلفاء أمريكا في المنطقة، بدءًا من إسرائيل وصولاً إلى الإمارات العربية المتحدة.ومع ذلك، يبدو أن المسؤولين في واشنطن، بما أنهم بمأمن عن عواقب الحرب، يدفعون باتجاه مثل هذه الكارثة. وحدث غزو العراق في عام 2003 بسبب أدلة ملفقة على أن صدام كان يمتلك أسلحة دمار شامل، وكان “جون بولتون” أحد اللاعبين الرئيسيين في هذا الخداع، وهو الرجل الذي أصبح الآن مستشار الأمن القومي المتشدد في إدارة “ترامب”.وعلى الرغم من هوسه بالتهديد بشن الحروب، فإن “بولتون” ليس محاربًا. وكما ظهر في مذكراته التي أصدرها في العام 2008 بعنوان “الاستسلام ليس خيارنا”، فلقد تجاهل “بولتون” دعوة أمته للقوات التي في فيتنام للانضمام إلى الحرس الوطني، وهو ما أدى إلى “تقدير الأمور بطريقة صارمة وهو أنه لن يضيع وقته في صراع بلا جدوى.”ومهما كانت الحقيقة وراء الهجوم على ناقلات النفط، فهذا هو الوقت المناسب للتفكير بعناية فائقة في عواقب حرب أخرى لم تحدث بعد في الشرق الأوسط بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. ومن المؤكد أن مجلس التعاون الخليجي لديه مخاوف لها ما يبررها بشأن تدخل إيران في الشؤون الإقليمية، بدءًا من اليمن وصولاً إلى سوريا، وحتى رعايتها لحزب الله في لبنان. وبالفعل، سيكون من المفيد لو أن صناع السياسية في إيران لم يكونوا غامضين ومتحمسين دومًا بتهديد الدول العربية الواقعة على السواحل الجنوبية للخليج – شريطة أن تتصرف إيران بطريقة من شأنها أن تولد الثقة بين جيرانها.وفي النهاية، من الصعب تصور أي شيء أكثر جدوى من موت الآلاف، والذين يتم إرسالهم إلى حتفهم ليس من أجل أنفسهم أو أسرهم، ولكن في خدمة أيديولوجية وطموح رئيس أمريكي لا يسعى إلى شيء أكثر تقديرًا من الفوز بولاية ثانية.