واقترب المشهد أخيرًا من نهايته، حيث تستعد أخيرًا المحكمة الدولية المنعقدة بلبنان لإصدار حكمها، وقد شُكلت تلك المحكمة بصفة أساسية في عام 2009 للتحقيق مع مرتكبي هجمات العام 2005 في بيروت، وهي الهجمات التي أودت بحياة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، ورغم أن المحاكمة لم تبدأ فعليًا منذ العام 2014، إلا أن المحكمة، وفي غضون أسبوعين فقط، ستصدر حكمها بشأن إدانة المتهمين الأربعة وهم سالم جميل عياش، وحسن حبيب مرعي وحسن حسن عنيسي وأسعد حسن صبرة. وكالعادة في جرائم القتل وغيرها من الأفعال المشينة، تجد بصمات حزب الله في جميع أركان القضية. غير أن “حزب الله” كما يلقب، قد وصف المحكمة فجأة بأنها “عديمة الجدوى”، وتوعد في الوقت نفسه المحكمة بشن حرب أهلية إذا أشارت تلك المحكمة “عديمة الجدوى” إلى تورط حزب الله. وفي هذا إشارة إلى حالة اليأس التي أصابت المكاتب المركزية التابعة لحزب الله.

وعلى عكس الولايات المتحدة الأمريكية، والتي ترى بشكل قاطع أن حزب الله جماعة إرهابية، يرى الأوربيون أنها ميليشيا ذات “جناح سياسي”، وهناك روابط بين العواصم الأوروبية وحزب الله. ورغم ذلك، إذا وجدت المحكمة أن حزب الله متورط في اغتيال الحريري ولم يتخذ اللبنانيون رد الفعل المناسب، فسيضطر الأوروبيون حينئذ إلى قطع صلتهم بتلك الجماعة، وهو ما يزيد من عزلة حزب الله والدولة الراعية له وهي “إيران”، رغم أن كليهما يناشدون أصدقائهم الدوليين بشدة لمساعدتهما في مواجهة العقوبات الأمريكية التي فُرضت مجددًا.

قد يعتقد الشخص العاقل أن السبيل أمام حزب الله للخروج من هذا المأزق هو إبرام تسوية مع المحكمة والمجتمع الدولي، وبمقتضى تلك التسوية يسلم حزب الله عناصر الميليشيات المتهمة مقابل تبرئته، والهدف من هذا العرض هو امتصاص سخط الحزب في شكل وضع سياسة واقعية. غير أن تلك السياسة الواقعية بعيدة المنال بالنسبة للمتطرفين الإسلاميين في لبنان. وعلى أي حال من الأحوال، لا تًصاغ تلك القرارات في بيروت. وتحرص طهران على محو أي شيء سيجعل من حزب الله في نهاية الأمر وبشكل صريح شبكة إجرامية (ويدرك العالم فعليًا ولو بصورة ضمنية أنها شبكة إجرامية). ورغم كل ما سبق ذكره، أنشأت إيران حزب الله لغرض صريح وهو تنفيذ المهام القذرة داخل الدول المجاورة لها، ولهذا لا بد من تجاهل هذا السبب، والذي يأخذنا إلى نهايته المنطقية وهو أنه على حزب الله محو كل من يعارضه.

ورغم غياب المنطق فيما سبق ذكره، إلا أن الارتباك الذي أصاب حزب الله وإيران قد يكون مفهومًا على الأقل إذا تتبعنا الأسباب المتشابكة وراء هذا الارتباك، فلم يعتقد حزب الله أو إيران أن أعمال القتل التي ارتكبوها سيكون لها مثل تلك التداعيات طويلة الأمد. ولماذا تلك التداعيات؟ إن القتل لدوافع سياسية أمرٌ ليس بالجديد في بلاد الشام. وبالفعل، كان يجب على حزب الله التفكير في أن اغتيال الحريري ستلاحقه سريعًا العناوين الصحفية البارزة والمنتشرة والتي تتناول تلك المأساة الجديدة التي تشهدها بلاد الشام. وحاول حلفاء حزب الله في الحكومة اللبنانية إنهاء الأمور سريعًا من خلال العبث بمسرح الجريمة، وسحب العربات المحروقة الخاصة بموكب الحريري، وردم الحفرة العملاقة التي أحدثها الانفجار على وجه السرعة، غير أنهم تفاجئوا بالغضب الذي أعقب ما فعلوه وهو ما أجج المطالبة بإجراء تحقيق ذي مصداقية لا تشوبه شائبة.

والآن، ماذا سيحدث إذا ما أقترب هذا التحقيق ذو المصداقية التي لا تشوبه شائبة من الكشف عن قراره؟. يستطيع حزب الله حينئذ التخلي عن قانون الوحدة الوطنية واستبدال رئيس الوزراء المعين، سعد الحريري، ابن رفيق الحريري، برئيس وزراء سني مخلص لهم، مع إمكانية إرسال “سعد الحريري” إلى منفاه مرة أخرى للتأكد من خلو الساحة اللبنانية من أي مسؤول يناصر قرار المحكمة. غير أنه ومع إسكات الشخصيات المحلية أمثال “سعد الحريري” والذي يمثل الجسر الأخير بين حزب الله اللبناني وبقية العالم، فإن الحزب يلقي بنفسه إلى التهلكة.

وبهذا لن يكن أمام حزب الله سوى الإبقاء على “سعد الحريري” ومناصري المحاكمة في الحكومة اللبنانية، وبالأخص التحفظ عليهم “كرهائن”. فإذا ما أصدرت المحكمة قرارًا ضد مصلحة الحزب، فسيعمل الحزب على إزعاج “سعد الحريري” وغيره بالطريقة التي تعرض سلامتهم للخطر. وبالتالي، وضمانًا لسلامتهم، سيضطر الحريري والمناهضين لحزب الله – إن لم يتعرضوا لانتقادات مباشرة – إلى النأي بأنفسهم عن المحكمة. وبهذه الطريقة يستطيع حزب الله نشر فكرة أن المحكمة أداة من أدوات التآمر الأجنبي وتفتقر إلى دعم اللبنانيون.

وأخيرًا، هناك خيار الحرب الأهلية والذي يهدد به الحزب في بعض الأوقات، وتبقى المشكلة في أن حزب الله قد أصبح قوة عسكرية، وكثيرًا ما توصل إلى تسويات مع الدولة، ولا يوجد من في استطاعته التصدي لتلك الحرب الأهلية، لأن حزب الله عمل كثيرًا على إضعاف الفصائل الأخرى بحيث لا يوجد من يمكنه مقاومة الحزب بالسلاح. وفي تلك البيئة غريبة الأطوار التي تتسم بها لبنان، يستطيع حزب الله التهديد بإشعال فتيل الحرب الأهلية ولا يوجد أحد لديه الشجاعة للوقوف امامه.

لقد حال حزب الله وحلفاؤه بالفعل دون تشكيل حكومة الحريري، والهدف من هذا هو إقناع كلاً من الحريري، وزعيم الدروز “وليد جنبلاط”، والقائد المسيحي “سمير جعجع”، بالموافقة على التحالف مع الزعيم السوري بشار الأسد [فهل سيقبلون بالأمر؟ أم أن التشكيل الوزاري سيتخذ شكلاً آخر؟]. وكان تأخير التشكيل الوزاري تأخيرًا جزئيًا حتى يضمن وزير الخارجية “جبران باسيل”، زوج ابنة الرئيس اللبناني “ميشيل عون”، أن التشكيل الوزاري الجديد يضمن له في نهاية المطاف أن يكون خلفًا للرئيس اللبناني “عون”.

وفي الوقت الحالي، صرفت المحكمة نظرها عن الحسابات المتعلقة بمن يخلف الأسد وباسيل، وأصبح من الصعوبة بمكان لحزب الله أن ينضم إلى حكومة “وحدة وطنية” تحت قيادة الحريري طالما أن رئيس الوزراء يرفض انتقاد المحكمة.

وفي الوقت الذي يبدو فيه أن حزب الله قويًا، فإن خياراته تكون محدودة، وتسير جميعها في اتجاه واحد. ستنجلي الحقيقة وسيتضح أن من قتل “رفيق الحريري” هو حزب الله، وبإمكان المنابر الإعلامية التابعة لإيران وحزب الله وحلفاؤهم إنكار هذا الأمر والادعاء بأنها مؤامرة ضد الحزب، غير أن العالم و(غالبية) اللبنانيين يعلمون الحقيقة جيدًا، وهي أن الحزب هو المسؤول عن اغتيال المعارضين، في الوقت الذي يدعي فيه هذا الحزب أنه قوة “تحرير”.

AFP PHOTO/JOSEPH EID

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: