يعُد انتشار وباء كورونا (كوفيد-19) بمثابة حدث غير عادي لم يسبق له مثيل في مستواه أو المدى الذي وصل إليه، كما شهد الأمر إجراءات سياسية مسبقة لا يمكن تصورها خاصة في أوروبا التي باتت الآن مركزًا للوباء، والواقع أن تلك الإجراءات السياسية وصلت إلى حد بعيد للدرجة التي جعلتها تقلب الطاولة فيما يخص افتراضات أساسية تتعلّق بالمجتمعات الغربية، وبما أن الفيروس مستمر في الانتشار بدول أخرى فإن مجتمعات تلك الدول بما فيها الشرق الأوسط ربما تشهد تغيرات في الافتراضات السياسية بشكل سريع.

والافتراض الأول يتعلّق بأن القرارات الرئيسية التي تتخذها الحكومات الغربية يجب أن تخضع أولًا لمناقشات مفتوحة، والمعروف أن جميع الدول الغربية تتمتع بالديمقراطية، لكن القرارات السياسية الاستثنائية واسعة المدى تم إصدارها دون عرضها في أية نقاشات مفتوحة إلا من رحم ربي.

وحالة العزل التام التي شهدتها إيطاليا حدثت بين عشية وضحاها، وفرنسا أغلقت مُعظم الأماكن العامة – المطاعم والحانات ودور السينما بعد تنويه جاء قبل الإغلاق بأربع ساعات فقط، وفي الدنمارك تم إعطاء مهلة يوم واحد لأولياء الأمور من أجل الاستعداد لعملية إغلاق جميع المدارس، وخلال هذا الأسبوع قامت دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة بإغلاق الحدود بعد إصدار تنويه قبل 12 ساعة من تنفيذ القرار، ومن المستحيل أن يتصور المرء اتخاذ أية قرارات سياسية في العصر الحالي لها تلك التبعات دون فتح نقاشات عامة حولها، بل أنها تمت في وجود القليل من المعارضة.

وكان المعتقد السائد هو أن مواطني الدول الغربية وبدرجات مختلفة لا يثقون في سلطة الحكومات خاصة فيما يتعلّق بالتطفل والتجاوزات، وقد أدّى ظهور الوباء إلى الكشف عن حقيقة مؤداها أن وقت الأزمة يقبل المواطنين الإجراءات الحكومية واسعة المدى بل أنهم يطالبون بالمزيد من التحركات الحكومية التي تنم عن التطفل.

والواقع أن إيطاليا وفرنسا وكل منهما له تاريخ طويل في الإضرابات العمالية والعصيان المدني، استجاب الشعب في كل منهما لتلك الإجراءات شديدة القسوة بصورة سلمية، حتى المملكة المتحدة وهي الدولة التي تبلغ فيها عدم الثقة بالحكومة منتهاها، والتي تعُد الدولة الأوروبية الوحيدة التي ليس بها بطاقات هوية وطنية، فإن شعب المملكة المتحدة قد دعا حتى إلى المزيد من الإجراءات المتطرفة واسعة المدى التي تقوم بها الحكومة.

والافتراض الثاني هو أن الشبكات التي تعتمد عليها حياة المواطنين تتمتع بالقوة، وبالنسبة لمُعظم المواطنين العاديين فإن عدم إدراكهم لتلك الحقيقة كان بمثابة أبرز الصدمات التي كشفت عنها الأزمة.

وفكرة خلو الأسواق من السلع الأساسية – الغذاء والدواء – باتت موضوعًا متكررًا يتم تناوله في المناقشات على وسائل التواصل الاجتماعي، وبدا واضحً أن الكثيرين يعتقدون أن الحكومة لديها مستودعات في مكان ما تحوي الكثير من السلع الأساسية الجاهزة للاستهلاك في الأزمات مثل أزمة انتشار الفيروس، والحقيقة أنه لا وجود لمثل تلك المستودعات.

وفي مكان آخر تعرضت الخطوط الجوية لصدمة عنيفة وبات الكثير منها يواجه شبح الانهيار، وأسواق المال أصابتها الفوضى، حتى ذات الشبكات التي كان يتم الاعتماد عليها في توفير المنتجات والطعام وعروض العطلات رخيصة الثمن باتت في أزمة.

والافتراض الثالث هو أن المجتمعات الليبرالية تعمل على تقويض أسوأ مظاهر الطبيعة البشرية، ومما لا شك فيه أن تلك الأزمة أظهرت أفضل ما في بعض الأمم، لكن العنصرية عادت من جديد في شكل تصرفات صغيرة يومية باتت شائعة وتثير الغضب، حتى أن الولايات المتحدة أرادت احتكار استخدام لقاح لفيروس كورونا قامت بتطويره شركة ألمانية، وهو موقف يجسد القبح بلا شك.

لكن هل يمكن أن يحدث شئ من هذا في منطقة الشرق الأوسط؟ ربما.

ومع استثناء واحد هو إيران، فإن دول الشرق الأوسط تجنبّت إلى حد بعيد الأرقام الضخمة من الإصابة بالفيروس التي شهدناها في كل من آسيا وأوروبا، لكن هذا الوضع من الممكن أن يتغيّر، والكثير من التطورات التي تخص هذا الوباء لم يكن أحد يتوقعها، كما أن الأمور تتبدّل بين عشية وضحاها.

وبعض ما حدث في أوروبا سابقًا طال منطقة الشرق الأوسط، وثقافة تخزين السلع بشكل هستيري تعُد من ملامح عدة دول الآن، وكما أثبتت بعض الأمثلة الخاصة بالتعامل العنصري على نطاق واسع مع الآسيويين فإن منطقة الشرق الأوسط ليست محصنة ضد تلك الأفعال العنصرية.

وقد حاولت حكومات المنطقة الالتزام بمنهج يقوم على محورين: التجهيز لاحتمال انتشار العدوى على نطاق واسع، واستخدام الحوافز المالية للتخفيف من آثار العزل واسع النطاق على الاقتصاد، وبعض الدول كانت لها القدرة على تنفيذ القرارات الحاسمة بشكل أسرع من دول أخرى.

وتعهدت مصر بتوفير أكثر من 6 مليارات دولار لدعم الاقتصاد، وتعهدت المملكة العربية السعودية بتقديم 13 مليار دولار تستهدف بصورة خاصة دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، أما الإمارات العربية المتحدة فقد أعدّت ما يُطلق عليه صندوق الحرب، حيث قدّمت 27 مليار دولار لهذا الصندوق، وهو ما يساوي تقريبًا قيمة المبلغ الذي خصصه الاتحاد الأوروبي لمواجهة تداعيات الفيروس، وهذا يعني أنه كانت هناك تحركات حاسمة حتى قبل استفحال الأزمة.

لكن لو تطلّب الأمر المزيد من القرارات الصعبة هل سيكون هناك رد فعل هادئ من شعوب الشرق الأوسط كما حدث في أوروبا؟، في ظل الكثير من حكومات الشرق الأوسط التي تميل بعضها الى الاستبداد والبعض الاخر إلى التدخل المباشر، والافتراض يقوم على أن الشعوب ستقبل بشكل سريع أية تدابير قوية تقررها الحكومات للضرورة، ومع انتشار فيروس كورونا تسقط تلك الفرضيات السياسية، وربما تسقط أيضًا في الشرق الأوسط، وأهم تلك الفرضيات التي سقطت هي أن منطقة الشرق الأوسط التي تعج بالاضطرابات ليست مستعدة لمواجهة انتشار الفيروس على نطاق واسع.

 

يقوم فيصل اليافعي حالياً بتأليف كتاب حول الشرق الأوسط، كما أنه يظهر كمعلق بشكل متكرر على شبكات التليفزيون الإخبارية الدولية، وقد عمل بالعديد من وسائل الإعلام المعنية بالأخبار مثل غارديان و”بي بي سي” وعمل مراسلاً بالشرق الأوسط وشرق أوربا بالإضافة لآسيا وإفريقيا.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: