بالنسبة لبلد لقبته المغنية المحبوبة “فيروز” يومًا ما بـ”أرض المهرجانات”، لم يسري الاحتفال بمرور مائة “100” عام على تأسيس البلاد بالشكل المناسب. ويشكل هذا الاحتفال جهود اللحظة الأخيرة لرئيس وزراءٍ لقيادة الإصلاح التكنوقراطي، وذلك بعد تسعة أشهر من جهودٍ بذلها لنفس الأمر. ومن أبرز مظاهر الاحتفال بمرور “100” مائة عام على السيادة هو وصول رئيس الدولة الاستعمارية السابقة في موكب باهر. والأسوأ من ذلك كله، هو الاعتقاد بأن رئيس الوزراء الجديد سيكون قادرًا على تحقيق ما فشل فيه سلفه، على الرغم من أن الأمور لم تتغير حرفيًا خلال الأسابيع الأربعة الماضية.
ورغم أن لبنان لديه رئيسًا جديدًا للوزراء، إلا أنه يعاني من مشكلة قديمة. وأدى تفجير ميناء بيروت في الرابع من أغسطس/آب إلى إسقاط حكومة “حسان دياب”. وفي هذا الأسبوع، تم تعيين بديلاً لحسان، وهو “مصطفى أديب” السفير السابق لدى ألمانيا.
ورغم ذلك، لم يأتي تعيينه بجديد. وهذا ليس لأن “أديب” غير أهلٍ للمنصب، بل لأن التركيز على تغيير الحكومة كرد على أي أزمة في لبنان هو في النهاية ما يديم أزمة الشرعية طويلة الأمد.
وتلك هي مشكلة “التصحيف” في لبنان. هذا الأسبوع، تم استبدال “دياب” بـ”أديب”، وهما رئيسا وزراء ألقابهما عبارة عن تحوير لكلٍ منهما الآخر. وما يحدث هو مجرد إعادة ترتيب الحروف. وتلك استعارة قوية للحالة السياسية في لبنان.
وينظر المطلعون والأجانب إلى النظام السياسي اللبناني على أنه نظام ديمقراطي طبيعي أو شبه طبيعي. لكنه ليس كذلك. ففي الأنظمة الديمقراطية، تستطيع الانتخابات إزاحة الحرس القديم وجلب أشخاصًا لديهم أفكار مختلفة. ولكن النظام اللبناني لا يستطيع فعل ذلك. إن بنية النظام اللبناني تؤكد على أن الأزمات الدورية لا يمكنها أن تغير سوى الأشخاص فقط، دون المساس بالنظام نفسه.
ولهذا السبب، وبعيدًا عن كوني غير لبناني مهتم بهذا الشأن، فإن الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، والذي وصل بيروت ليلة الاثنين، متواطئ في لعبة الكراسي الموسيقية التي يمارسها النخبة السياسية في لبنان. ومن خلال سعيه إلى تغيير الحكومة بعد انفجار الميناء، فإن ما فعله “ماكرون” هو في الواقع إطالة أمد نموذج الفشل، وبهذا يضفي مصداقية على فكرة أن رئيس الوزراء الجديد يمكنه بالفعل إصلاح النظام. وقال ماكرون إنه يريد ضمان أن الحكومة الجديدة “ستنفذ الإصلاحات اللازمة”. إذن، ما التغير الملموس مع تعيين “أديب”؟.
ولنأخذ، كمثال، المفاوضات على القروض مع صندوق النقد الدولي، وهي القروض التي يحتاج إليها لبنان بشدة لإخراجه من الأزمة الاقتصادية الحالية. وقال “أديب” يوم الاثنين إن الموافقة على القرض أولوية شخصية. ولكن المفاوضات جارية منذ شهور، وكانت إحدى نقاط الخلاف الرئيسية هي مقدار ما يجب شطبه تحديدًا من الدين العام الضخم في لبنان، مع تحمل البنوك والمساهمين بعض الخسائر. ولا غرابة، بالنظر إلى العلاقة الوثيقة بين السياسيين والمصرفيين، في أن الاتفاق لا يزال بعيد المنال.
وفي الأيام التي سبقت انفجار مرفأ بيروت، كان دياب يتفاوض على تلك النقاط. والآن، وعد أديب بخوض جولة جديدة من المفاوضات. ولكن ما الذي تغير في أربعة أسابيع وقد يمضي بالمفاوضات قدمًا؟
إن العلاقة الوثيقة بين السياسة والتمويل لا تزال قائمة. ويستمر السياسيون في إغداق الأموال على مجتمعات بعينها. ولا يستطيع البرلمان والحكومة حتى الاتفاق على سعر الصرف.
وحتى الطريقة التي ترشح بها “أديب” للمنصب بقيت دون تغيير، على الرغم من أن ضغط ماكرون اقتطع قليلاً من الجدول الزمني. وفي النهاية، عجلت جماعة حزب الله الشيعية بالترشيح، ووافق عليه السياسي السني “سعد الحريري”، وصدق الرئيس المسيحي “ميشال عون” على تعيين “أديب” خليفة “دياب”: ونفذ تلك العملية الدقيقة، بهذا الترتيب الدقيق، نفس الأشخاص كما حدث في ديسمبر/كانون الأول. وربما أن “ماكرون” تمتم قائلاً بأن شيئًا لم يتغير.
وقطعًا، يدرك السياسيون اللبنانيون هذا الأمر. وأصبحت الإيماءات العامة المنتظمة أمرًا روتينيًا. بل أن حزب الله، والذي ندد مرارًا وتكرارًا بالتدخل الخارجي في لبنان، انضم أيضًا إلى هذه المهزلة، إذ أيد زعيمها، حسن نصر الله، الأسبوع الماضي صراحة دعوة ماكرون لإبرام عقد سياسي جديد، قائلاً إنه منفتح على الإصلاحات “إلى أقصى درجة”.
ويعلم نصر الله، وماكرون كذلك، وكل سياسي يبدي ترحيبه بالزعيم الفرنسي خفية، أن الأمور لن تتغير. لا شيء سيتغير. وفي الواقع، ربما هناك أدنى مقدار من الصدق من زعيم حزب الله، لأن الإصلاح الواسع النطاق سيعود بالنفع على جماعته والمجتمع الشيعي في لبنان، وسيكون على حساب النخب التي يدعمها ماكرون.
إن الهدف من زيارة ماكرون في الذكرى السنوية لتأسيس دولة لبنان لم يكن الضغط من أجل التغيير، ولكن للمشاركة في الوضع الراهن، لفرض موافقة غربية على التعديل التصحيفي الأخير في لبنان.
وكما هو الحال مع إعلان تأسيس دولة لبنان العظمى قبل مائة عام – من جانب جنرال فرنسي، من مقر المفوض السامي الفرنسي – فإن المقترح بتغيير واسع النطاق سيتحول إلى وهم. وهناك داخل النظام، العديد من الطرق التي يمكن من خلالها تعديل الأحرف. وكلما تغيرت الأشياء في لبنان، بقيت الأمور على حالها.
يؤلف “فيصل اليافعي” حاليًا كاتبًا عن الشرق الأوسط، وهو معلق دائم لدى الشبكات الإخبارية التلفزيونية العالمية. عمل “فيصل” لدى وكالات أنباء مثل “الجارديان” و”بي بي سي”، وأعد تقارير عن الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا.