يُعرف البؤس المرء بزملاء غريبين، وقد كشفت الحرب الأوكرانية اللثام عن بعض زملاء روسيا غير العاديين.
وأبرز الأمثلة على هؤلاء هو رجل الأعمال الروسي “يفغيني بريغوزين” الذي اعترف مؤخرا أنه أسس مجموعة فاغنر الغامضة المكونة من المرتزقة الذين ظهروا في الصراعات في جميع أنحاء العالم، وما قاله هو سرا عرفه الجميع منذ فترة طويلة.
فقد قام بريغوزين ومجموعة فاغنر بنشاطات علنية في الأسبوع الماضي، حيث افتتحت فاغنر مركزا فخماً للتكنولوجيا العسكرية في سان بطرسبرج، وهو مبنى شاهق الارتفاع مكون من الزجاج والصلب ويهدف إلى احتضان الشركات الناشئة “المحبة للوطن”.
والأمر الأكثر اثارة، هو اعتراف بريجوزين بالتدخل في الانتخابات الأمريكية عشية انتخابات التجديد النصفي، والذي اتهمته بها محكمة أمريكية في عام 2018.
وبالنسبة لبريغوزين، فإن تلك التحركات تهدف إلى وضعه ضمن نخبة السلطة في موسكو، على الرغم من أنه لا يشغل أي منصب رسمي، ومجموعة فاغنر باعتبارها في طليعة روسيا الأكثر عدوانية. ومع ذلك، ومهما طال الوقت الذي ربما قضاه بريغوزين في العالم الغامض للمرتزقة الدوليين، فإنه ومقاتلوه يخرجون من الظل إلى عالم أكثر خطورة.
وأصبحت مجموعة فاغنر جزءا حيويا من السياسة الخارجية غير الرسمية لروسيا. حيث عملت المجموعة في سوريا وليبيا، فضلا عن دول أفريقية أخرى مثل مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، وقد اتهمت المجموعة بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان.
وتكمن فائدة مجموعة فاغنر لروسيا في افتقارها إلى المساءلة، حيث تعمل المجموعة خارج إطار الدولة الروسية، مما سمح للكرملين بإنكار معرفته بأي من عملياتها. وعلى الرغم من الأدلة الواضحة على التعاون والتنسيق بين جوانب من الدولة الروسية وفاغنر، وخاصة الذراعين العسكري والاستخباراتي، فإن الجماعة “رسميا” لا تمت لموسكو بأي صلة.
وهناك أيضا فائدة ثانوية للكرملين والتي تعد أكثر بشاعة، حيث لا يخلق مرتزقة فاغنر الذين يموتون في الخارج الكثير من غضب الجمهور، ولا يحتاج الكرملين أبدا إلى أن يشرح للجمهور سبب موت الجنود في البلدان الأفريقية، لأن كل هؤلاء الجنود هم مرتزقة يعملون في القطاع الخاص. (لهذا السبب ظهر مقطع فيديو في فصل الخريف لـ بريغوزين وهو يحاول تجنيد السجناء للقيام بجولة في الخدمة في أوكرانيا).
فإذا اعطى التخفي لبريغوزين ولمرتزقته تلك الميزة، فلماذا إذن قرر الظهور للعلن؟
والإجابة المختصرة هي أن الحرب غيرت الكثير ، داخل روسيا وخارجها.
ما كان في السابق تنافسا محتدما بين روسيا والغرب انفجر إلى صراع مفتوح تقريبا، ومن الواضح أن الكرملين لم يعد يشعر بالحاجة إلى إخفاء بعض الإجراءات التي كان يتخذها، مثل استخدام المرتزقة أو التدخل في الانتخابات. والواقع أن هناك الكثير مما يمكن كسبه من خلال إثبات أن روسيا لديها طرق متعددة لمهاجمة خصومها.
وفي الوقت نفسه، ومع استمرار الحرب، ازدادت المعارضة حول الكرملين. وهنا يعمل بريغوزين كمشجع صريح لقرار بوتين، ومن المحتمل أن يكمم أفواه النقاد ببساطة بسبب أسلوبه القتالي. وبالنسبة له، يمكن مكافأته بإعطائه أعلى منصب سياسي وربما حتى رئيس وزارة الدفاع. وبعد تحريرها من العمل في الظل، يمكن لفاغنر أن تحصل على عقود حكومية مربحة.
ومع ذلك، فإن الخروج من وراء الستار يحمل في طياته بعض المخاطر بالنسبة لمجموعة فاغنر ولبريجوزين نفسه، بل وحتى لفلاديمير بوتين.
وبالنسبة لبوتين، يمكن التنصل عن مجموعة فاغنر دائما وبكل سهولة، حيث يمكن تجاهل انتقاد سلوك مرتزقتها في البلدان الأفريقية والزعم بأن بريغوزين هو مجرد رجل أعمال ذو مصالح متعددة ولا يعمل لصالح الحكومة الروسية، وبالمثل، يمكن رفض مزاعم التدخل في الانتخابات الأمريكية لعدم وجود دليل.
ولكن مع قيام بريغوزين بدور أكثر نشاطا، فإن ذلك يضعف من صحة أي إنكار، وإذا كانت السلطات الأميركية قد وجهت الاتهام إلى بريجوجين، وهو الآن يعترف علنا بتدخله في الانتخابات، فكيف يمكن لبوتن تجنب سؤاله عن ذلك؟ وإذا وقعت مرافق فاغنر البحثية الجديدة عقود مع الجيش الروسي أو وزارة الدفاع، فمن المؤكد أن هاتين الوزارتين ستسألان على الأقل عن مزاعم الانتهاكات في الدول الأفريقية؟ والدولة الروسية حرة في تجاهل الإجابات أو التظاهر بأنها راضية عن إنكار الذي تقدمه، لكن قوة ذلك النفي ولإنكار ستضمحل.
وهناك أخطار حتى لبوتين، فإذا نجا الأخير من كارثة أوكرانيا، فسوف يواجه دولا غربية أكثر عدوانية، ولن ينسى أحد الاعتراف بالتدخل في الانتخابات في الولايات المتحدة. وقد وضع اعتراف بريغوزين وكالة أبحاث الإنترنت، أو مركز المُتصيدين عبر الإنترنت الذي يديره، على طاولة المفاوضات المستقبلية.
ولكن الشخص الأكثر ضعفا في هذه الحلقة هو بريغوزين نفسه، وعلى عكس الزعيم الشيشاني رمضان قديروف الذي انتقد علنا أداء الجيش الروسي في الحرب، فإن بريجوجين لا يحكم دولة، وبالتالي يمكن لروسيا التخلص منه بكل سهولة.
وقد تحدثت بعض وسائل الإعلام عن تصادم بين بريجوزين وبوتين، ولكن ذلك الحديث عارٍ من الصحة، لأن بريجوزين في قبضة بوتين، حيث إن استخدام المرتزقة محظور بموجب القانون الروسي، لذلك يمكن الحكم على بريجوزين بالسجن لسنوات في اللحظة التي يختلف فيها مع بوتين أو يتحداه.
وهنا يكمن الخطر الأكبر، فمن الوارد أن الحرب قد زادت من شعبيته وظهوره، لكن الحروب لا تخلوا من المفاجئات، لقد خلق بريغوزين لنفسه أعداء أقوياء بعد ظهوره للعلن وانتقاد الجيش الروسي. إن السياسة في روسيا عالم خطير، وقد يجد بوتن أن مشجعا بارزا مفيدا اليوم يمكن أن يصبح أيضا كبش فداء من نخبة القوم في الغد، وحتى جيش من المرتزقة لن يحمي بريغوزين حينها.
يكتب فيصل اليافعي حاليا كتابا عن الشرق الأوسط، وهو معلق دائم الظهور على شبكات الأخبار التلفزيونية الدولية، وقد عمل في منافذ إخبارية مثل الجارديان وبي بي سي، ونشر تقارير عن الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا.
تويتر: @FaisalAlYafai