من شبه المؤكد غياب النقاشات الساخنة عن المشهد السياسي التركي في العام المقبل، وذلك عندما تتواجه النخب السياسية في تركيا لخوض الانتخابات العامة للبلاد، وتعد النقاشات الساخنة عنصرا هاما من عناصر الديمقراطية. ومنذ انتخاب الرئيس رجب طيب أردوغان لأول مرة رئيسًا للوزراء في عام 2002، لم يعد البث التلفزيوني للأفكار والاختلافات، وهو الأمر الشائع في الديمقراطيات الغربية، سمة من سمات السياسة التركية.
وفي “تركيا الجديدة” الواقعة تحت إمرة أردوغان، أدى غياب النقاش الساخن إلى إعفاء القادة من العمل لنيل أصوات الشعب، وهمّش الناخبين المتشككين من جدوى عملية الانتخابات، وبعبارة أخرى، كلما طال غياب السياسيين عن دائرة النقاشات الساخنة، كلما قصر عمر الديمقراطية في تركيا.
وظهر البرنامج المفضل للمتفرجين والمعروف باسم المناظرة السياسية لأول مرة على التلفزيون التركي في عام 1983، وفي ذلك الوقت، كان الملايين ينجذبون إلى شاشاتهم لمشاهدة السياسيين وهم يحددون البرامج الحزبية ويدافعون عنها. وصار من الشائع مشاهدة موظفي الحكومة وهم يتناظرون ويتبارزون بالكلمات في أوقات الذروة على التلفاز لدرجة أن ذلك النقاش الساخن انتقل من مستوى السياسة الوطنية إلى المستوى المحلي.
وكما هو الحال في بعض مدن العالم، فقد رفعت المناظرات السياسية بعض السياسيين الأتراك وخسفت بالبعض الأخر، وأردوغان نفسه صعد إلى المشهد السياسي الوطني من على منصة المناظرات، ففي حملة انتخابات عام 2002 لمنصب رئيس الوزراء التركي، دفع نقاش ساخن أثناء أوقات الذروة على التلفزيون رئيس بلدية إسطنبول آنذاك ورئيس حزب العدالة والتنمية (أي كي بي) إلى أعلى منصب في البلاد، حيث تفوق أردوغان على رئيس حزب الشعب الجمهوري (سي أتش بي) دنيز بايكال.
وفي عام 2007، أدى نقاش ساخن إلى سحق تطلعات نائب رئيس حزب العدالة والتنمية “دنجير مير محمد فرات”، الذي استقال من منصبه بعد شهرين من مناظرته التي استمرت 95 دقيقة مع عضو البرلمان من حزب الشعب الجمهوري “كمال كيليكدار أوغلو”، حيث اتهم كيليكدار أوغلو فرات بالفساد، وقد أصبح أوغلو فيما بعد رئيسًا لحزب الشعب الجمهوري بعد أن تغلب على عمدة أنقرة “مليح جوكجيك” في مناظرة أخرى، وكان المسرح السياسي في أكثر حالاته إفادة وتسلية.
ومنذ ذلك الحين، خيم الهدوء على منصة النقاش الساخن أو مسرح المناظرات، وعلى الرغم من الدعوات العديدة من المنافسين لأردوغان، إلا أنه تجنب تلك المناظرات رغم كونه خطيبا مفوها. ويقول رئيس التحرير السابق لـ “حريات ديلي نيوز” مراد يتكين، إن أردوغان منع أعضاء حزب العدالة والتنمية الآخرين من الظهور في المناظرات التلفزيونية، ويعد حظر مشاركة الآخرين في المناظرات تآكلًا آخر للحريات الديمقراطية في تركيا ودليلًا إضافيًا على إحكام أردوغان قبضته على المشهد السياسي.
ويعد الحظر المفروض على المناظرات السياسية على شاشة التلفاز أمراً واضحاً بشكل خاص في تركيا، حيث يعتبر التلفزيون المصدر الرئيسي للمعلومات والأخبار، على سبيل المثال، وجدت شركة “كوندا”، وهي شركة معنية باستطلاعات الرأي، ومقرها إسطنبول، أن 67 بالمائة من الأتراك علموا لأول مرة بمحاولة الانقلاب عام 2016 من خلال شاشة التلفزيون. وفي الواقع، يقضي الأتراك معظم أوقات فراغهم في مشاهدة التلفزيون، حيث قدر تقرير صدر في عام 2020 من شركة ” تي في أودينس رسرتش كومباني لميتد” أن الأتراك يقضون أربع ساعات و3 دقائق يوميًا في مشاهدة التلفزيون، وبالطبع، لا يتابع الجميع الأخبار على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع، لكن مقدار الوقت الذي يقضيه المواطن التركي أمام شاشة التلفزيون يوضح مدى أهمية التلفزيون في معظم المنازل.
ولكن التغطية الإخبارية في تركيا تميل نحو الحزبية بصورة واضحة، فقد كشفت “إلهان تاسكي” وهي ممثلة حزب الشعب الجمهوري عن هيئة مراقبة البث التركية، في المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون (أر تي يو كي)، أن أحزاب المعارضة لا تحصل تقريبًا على أي وقت على الهواء، وخلال الحملة الانتخابية لعام 2018، والتي استمرت من 17 أبريل إلى 6 مايو، لم تمنح شركة الإذاعة والتلفزيون التركية العامة أي وقت بث لحزب الشعوب الديمقراطي (أتش دي بي)، ومنحت ثلاث ساعات وأربع دقائق لحزب الشعب الجمهوري، و36 ساعة لحزب العدالة والتنمية.
ومما زاد من حدة تلك المخاوف هو أن نصف الناخبين الذين سيدلون بأصواتهم في الانتخابات العامة المقبلة، لن يكون لديهم أي ذكريات عن رؤية مناظرة سياسية متلفزة، فشباب الجيل المنتمي لفئة “زد”، وهم حوالي 5 ملايين نسمة ولدوا بعد عام 1997، ويمثلون 16 في المئة من الناخبين، وسيدلون بأول أصواتهم في الانتخابات الوطنية العام المقبل، بينما يشكل جيل الألفية، المولود بعد عام 1981، 33 في المئة.
وكانت المرة الأخيرة التي رأى فيها الناخبون في تركيا شيء يشبه المناظرة السياسية هو في عام 2019، وكان ذلك اجتماعًا رزينا وحازما على الشاشة بين “علي يلدريم” من حزب العدالة والتنمية و” أكرم إمام أوغلو” من حزب الشعب الجمهوري في حملة للفوز بمنصب عمدة إسطنبول. ولم يتحدث أي من الرجلين مباشرة مع الآخر، ولم يكن هناك نقاشا مستعرا، ولا مضمون، ولا شيء من شأنه أن يؤثر على نتيجة انتخابات رئاسة البلدية.
وبالنظر إلى تراجع واضمحلال النقاش الساخن في تركيا على مدى عقدين من الزمن، والأدلة من البلدان الأخرى على أن مثل هذه الأحداث لها تأثير ضئيل على نتائج الانتخابات، فيجدر التساؤل عما إذا كان انحصار السجال السياسي على شاشة التلفاز في تركيا مهمًا، وذلك سؤال يستحق الطرح، لكنه لا يستحق الإجابة.
وببساطة، أدى اختفاء الخطاب السياسي الشفاف إلى استبعاد أجيال كاملة من الناخبين من العملية السياسية، ومنع الشباب من نيل حقوقهم والتحلي بمسؤولياتهم كمواطنين، فقد بلغ ملايين الناخبين سن الرشد ولم يروا أي من رجال السياسة وهو يبذل أي جهد لنيل أصواتهم أو يتم استدعاؤه علنًا لمحاسبته على أخطائه. ولا شعوريًا، تم ترويض الناخبين الشباب في تركيا على عدم توقع وفاء السياسيين بوعودهم، أو حتى تقديم وعود والتزامات.
وربما يكون افتقار تركيا إلى “الكفاءة” السياسية والقضاء على المساءلة العامة هي أكبر التحولات في المشهد السياسي في البلاد منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وقد اعتاد الناخبون على أن يتجنب السياسيين الأتراك المحاسبة أو التعامل المباشر مع المعارضة، والسياسة اليوم في تركيا هي صندوق أسود.
ولسوء الحظ، ما نتج عن ذلك هو سرد منفرد، يمكّن صوتاً واحدًا على حساب العديد من الأصوات الأخرى، وموقف أردوغان المتمثل في تجنب خوض النقاشات الساخنة العامة هو سبب رئيسي لهذا الاتجاه، وبينما يستعد المرشحون لخوض المعركة في الانتخابات العامة للعام المقبل، سيحتاج الناخبون إلى الإدلاء بأصواتهم بناءً على ما يُقال في قنوات الإعلام الرسمية، ولكن الأهم من ذلك، هو ما لا تقوله قنوات الإعلام الرسمية.
تعمل الكسندرا دي كريمر كصحفية في إسطنبول، كما عملت كمراسلة في الشرق الأوسط لصحيفة ميلييت حول الربيع العربي من بيروت، وتتراوح أعمالها ما بين الشؤون الحالية إلى القضايا الثقافية، وقد ظهرت في مونوكل وكارير وماقزين وميسن فرانسسكو وأخبار الفن في إسطنبول.