أخيراً وبعد مرور ثمان سنوات عن إبرام أول اتفاق بين روسيا وتركيا لإنشاء محطة لتوليد الطاقة النووية، جرت مراسم التدشين الأسبوع الماضي في محطة “أكويو” على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وكما كان متوقَّعاً، عمَّت خلال مراسم التدشين أجواء من الأبهة والاحتفال والتعابير عن مشاعر المودة والصداقة، لكن من جهة أخرى حملت هذه المناسبة بين ثناياها إعلاناً عن النوايا لا تخطئه العين. ففي غضون أقل من أسبوع واحد من طرد الدول الغربية لعشرات المسؤولين الروس على خلفية قضية تسميم جاسوس روسي سابق وابنته في إحدى المدن الإنجليزية، ها هو فلاديمير بوتين في أول رحلة خارجية له منذ إعادة انتخابه رئيساً لروسيا يتحدث عن علاقة استراتيجية جديدة مع تركيا، تلك الدولة الإسلامية الكبرى والعضو في حلف “الناتو”. وهو كذلك رد على من يقولون إن روسيا قد أصبحت في عزلة، بل ما زال لديها أصدقاء أقوياء في العالم.
وإذا كانت روسيا بالفعل تسعى لبناء علاقة جديدة مع العالم الإسلامي في ظل فتور علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، فسيكون عليها توجيه أنظارها إلى تركيا أولاً. ويمثل مفاعل “أكويو” النووي تتويجاً لهذه الروابط السياسية والاقتصادية الحديثة العهد، علماً بأن متانة العلاقات بين الجانبين قد تعززت بشكل تصاعدي منذ أزيد من عقد من الزمن. ومن المفارقة أن الحرب الأهلية السورية التي وضعت البلدين على طرفي نقيض في بادئ الأمر هي التي وحدت بينهما على مستوىً استراتيجي لاحقاً، إلا أنها تبقى في نفس الوقت هي القضية الأساس التي قد تؤدي إلى تمزق هذه العلاقات، كما سبق أن حدث من قبل. فالحرب ذاتها التي ألَّفت بينهما قد تتحول إلى إسفين يفرق بينهما.
وقد تميزت العلاقات بين البلدين بالودية منذ عقد من الزمن، وتضاعفت المبادلات التجارية الثنائية بينهما أضعافاً منذ سنة 2010، كما وافقت روسيا على بيع نظامها الدفاعي المضاد للصواريخ “إس-400” المتطور لتركيا. وقد انطلقت في السنة الماضية أشغال مشروع إنشائي رائد بمسمى “ترك ستريم” والذي يخص إنشاء خط أنابيب غاز مباشر بين البلدين يمر تحت البحر الأسود. وقد كان مشروع “ترك ستريم” بحد ذاته عبارة عن ردة فعل ضد الضغط الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على موسكو حين قرر الاتحاد سنة 2014 إلغاء مشروع مد خط أنابيب غاز من روسيا إلى أوروبا جراء قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم. وسرعان ما تم بعدها الاتفاق على مشروع “ترك ستريم” بين الروس والأتراك قبل انتهاء نفس السنة.
هذا ويُعد صمت الاتحاد الأوروبي من العوامل التي قرَّبت المسافات بين البلدين، فكلاهما يشعر بأن الاتحاد الأوروبي قد استهان بمخاوفهما الأمنية، والتي نذكر منها محاولة الانقلاب الأخيرة في تركيا والاصطفاف الغربي على مشارف الحدود الروسية؛ وكلاهما يشعر أن الاتحاد الأوروبي يرفض التعامل معه على حق حجمه وقدره.
وكان الصراع السوري هو العامل الذي سلط الضوء على إمكانيات التعاون الوثيق بين موسكو وأنقرة.
ففي بداية النزاع، كانت تركيا منخرطة بقوة في الثورة في حين اتبعت روسيا نهج عدم التدخل، إلا أنه في ظل اشتداد وطيس الحرب، قرر كلا البلدان أن احتواء الصراع هو القرار الأسلم.
تركيا كان لديها هاجس فوري وقابل للقياس الكمي عنوانه ملايين السوريين الذين يعبرون حدودها منذ اندلاع الصراع؛ أما روسيا فقد كان هاجسها أقل قابلية للقياس ولكن وقعه على أمنها القومي لم يكن أقل أهمية: وهو تنظيم “داعش”، حيث كان التنظيم يرى في روسيا هدفاً مشروعاً ومرتعاً خصباً للتجنيد، حتى أنه في فترة من الفترات راح ينشر مواد متطرفة باللغة الروسية. وقد تنبه الكرملين إلى هذا الخطر، حيث أدرك جسامة التهديد الذي سيشكله المقاتلون الروس لدى عودتهم إلى ديارهم عبر القوقاز بعد أن راكموا من الخبرة القتالية ما يكفي ويزيد.
ولكن مع استمرار النزاع، وجد كلا البلدان فرصة مواتية لإعادة ترتيب صفوفهما. فقد تمكنت تركيا بمشاركتها في الصراع من وقف التوسع الكردي وفرض وجودها في سوريا من خلال مساندتها لـ”الجيش السوري الحر”. أما روسيا، فقد تحول هدفها الذي كان يقتصر على حماية نظام الأسد والقاعدة العسكرية الروسية في مدينة طرطوس المينائية إلى عملية إعادة تنظيم استراتيجي على نطاق أوسع ومن موقع قوة.
ومع ذلك، تبقى هذه العلاقة الوطيدة مهددة بالتمزق بسبب الملف السوري. بل لقد سبق أن حدث ذلك في نوفمبر 2015 بعد أسابيع من دخول روسيا إلى الحرب الأهلية السورية، لما قامت تركيا بإسقاط طائرة حربية روسية دخلت مجالها الجوي عن طريق الخطأ. وقد ردت روسيا على ذلك بفرض حظر على الواردات التركية ووضع حد لرحلات السياح الروس إلى تركيا وتعليق المشاريع الإنشائية بما فيها “ترك ستريم”. وقدَّر عالم اقتصاد تركي فيما بعد أن هذا الرد الروسي قد كلف الاقتصاد التركي 10 ملايير دولار.
وفي حين يُستبعد أن يحدث صدام عسكري من هذا القبيل مجدداً، يبقى مآل النزاع في سوريا على المدى البعيد موضع شك، وتبقى كل من تركيا وروسيا من الأطراف الأكثر نشاطاً في سعيهما إلى حل هذا الصراع بشكل من الأشكال.
ولكن ما زالت هناك نقاط شائكة، تتعلق إحداها بمصير الأكراد السوريين. فقد سبق أن تراجعت روسيا عن موقفها مرتين في وجه الاعتراضات التركية، كانت إحداهما لما ألغت موسكو الدعوة الموجهة لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي، والذي تبغضه أنقرة، لحظور مؤتمر سوتشي، والثانية لما قبلت روسيا بهجوم تركيا على عفرين. ولكن هاتين الحالتين لم تتجاوزا حد المناوشة، وموسكو قد أعلنت أن أي عملية سلام جدية ينبغي أن تكون فيها “كافة المجموعات الإثنية” ممثَّلة، وهو ما قد يتسبب في إحداث شرخ في العلاقات مع أنقرة.
وهناك نقطة شائكة أخرى تهم العمليات التركية المتواصلة لإخلاء الحدود من الجماعات الكردية، فالسبب وراء تعرض وزير الخارجية الروسي في وقت سابق من هذه السنة لصيحات استهجان من طرف المفوضين السوريين في سوتشي هو العمليات العسكرية التي تقودها تركيا في عرفين. علاوة على ذلك، تشكل مساندة تركيا المستمرة لـ”الجيش السوري الحر” مصدر توتر محتمل بين البلدين، فإذا تمكن نظام الأسد من استرجاع سيطرته على معظم الأراضي السورية بمساعدة روسيا، ماذا سيكون وضع “الجيش السوري الحر” عندها؟ ستصبح أنقرة على رأس جيش متمرد يُعتبر عدواً لدوداً لنظام الأسد المدعوم روسياً.
في الوقت الراهن، بوتن وأردوغان تعلو مُحياهما الابتسامات العريضة، فكلاهما في حاجة لحلفاء، ولكن كلاًّ منهما لديه مصالح جيو-سياسية راسخة في الشرق الأوسط، ولن يتنازل أي منهما عنها بسهولة. إن العلاقة التي تُبنى على القوة النووية تكون دائماً معرضة للانصهار.
AFP PHOTO/ADEM ALTAN