منذ خمسة عشر “15” عام، عرضت وكالة البحوث الدفاعية التابعة للجيش الأمريكي مكافئة قدرها “1” مليون دولار أمريكي لمن يستطيع ابتكار سيارة ذاتية التحكم ولديها القدرة على السفر لمسافة 240 كيلومتر في صحراء موهافي. وخرج جميع المتنافسين والبالغ عددهم خمسة عشر “15” متسابقًا من تحدي “داربا” (وكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية) الذي أُقيم في العام 2004، حيث لم تتجاوز أي سيارة مسافة “11,9” كيلو متر. ورغم ذلك، وفي العام التالي، اجتازت خمس “5” سيارات خط النهاية، وخسرت “وكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية” جائزتها المالية، وأقبل العالم على هذا السباق للاستفادة ماليًا من التكنولوجيا التي لا يوجد من يستخدمها حتى هذه اللحظة.
وهناك أخبار تفيد بأن المملكة المتحدة ستخفف من القوانين التي تنظم عملية الاختبار العام للسيارات ذاتية التحكم، وهذا دليل آخر على أن التسابق المحموم نحو اقتناء سيارة ذاتية التحكم لن يتوقف. وفيما يبدو أنها محاولة يائسة للحاق بركب المملكة المتحدة بصفتها صاحبة الريادة حول العالم في تكنولوجيا السيارات ذاتية التحكم، ومن المقرر أن تؤيد الحكومة الأمريكية “التجارب المتطورة” على الطرق العامة، بصرف النظر عن وجود شخص في مقعد القيادة أم لا.
وتقتصر “قيادة” المملكة المتحدة على تقليص معايير الإشراف الدولية – في خضم هذا التدافع الكبير لاستغلال هذه التكنولوجيا، باعتبارها سابقة تنظيمية سينتج عنها حالة أخرى. وتفشل الحكومات خارج المملكة المتحدة بسبب التكنوقراطيين وأتباع المذهب الإنجيلي من المتخصصين في دراسة المستقبل.
وتسعى شركات تصنيع السيارات التقليدية، والتي تخشى من التخلف عن ركب هذه الصناعة بسبب المنافسين، إلى الدخول إلى عالم القيادة بدون سائق. ومما لا شك فيه، أن السيارات ذاتية التحكم ستسير قريبًا على الطريق بالقرب منك.
وفي شهر أغسطس، تعهدت هيئة الطرق والمواصلات في دبي، بضمان “تفوق” دبي في مجال السيارات ذاتية التحكم، وأعلنت أن السيارات ذاتية التحكم ستسير على طرق دولة الإمارات العربية المتحدة في “القريب العاجل”. وأضافت الهيئة، أنه مع حلول العام 2030، سيتم تسيير ربع جميع الرحلات في المدينة بدون سائق.
وفي العام الماضي، استثمر صندوق رؤية سوفت بنك المدعوم من المملكة العربية السعودية، وأحد المساهمين في شركة أوبر الرائدة في خدمات التوصيل بالسيارات ذاتية التحكم، بمبلغ 2,25 مليار دولار أمريكي في شركة “كروز” القابضة إحدى شركات جنرال موتورز، وانصب تركيز الصندوق على التفوق على شركة “وايمو آند تسلا” التابعة لشركة جوجل.
وباختصار، لم يخرج من دائرة الاستمتاع بهذه التكنولوجيا سوى الشعوب.
ومن المحتمل أن تساعد السيارات والشاحنات ذاتية التحكم على تقليص الانباعثات الناتجة عن تغير المناخ. ومن غير المنطقي أيضًا الإشارة إلى أن الحوادث الأربع المميتة منذ العام 2016 (عندما صدمت سيارة تابعة لشركة “أوبر” ثلاثة سائقين تابعة لشركة “تسلا” وأحد المارة) ستطيح بإمكانية تنفيذ هذه التكنولوجيا لإنقاذ أرواح البشر يومًا ما. وبعد هذا كله، يعتبر الإنسان سائقًا فاشلاً، وهو الأمر الذي يبعث على الصدمة. وفي أحدى العروض القديمة حول تصور المخاطر المتعلقة بعيوب الصناعة، تقبلنا بشيء من الهدوء وضيق الأفق أنه يفقد العالم سنويا”1,2″ مليون شخص بسبب السيارات، ويعادل هذا الرقم ما قيمته تحطم “160” طائرة “Airbus A320s” كل شهر.
ورغم ذلك، هناك العديد من التداعيات العملية والأخلاقية والنفسية بسبب الاندفاع نحو الأتمتة، ويشكل التقصير الجماعي في اعتبار تلك التداعيات إلغاء عالمي للمسؤولية.
ولم يسعى أحد للتوصل إلى اتفاق بشأن مدى استحسان هذه التكنولوجيا. ومن الذي يريدها، ولماذا؟، فالشخص مجبر على الاختيار ما بين حماية المسافر أو المارة، ومن الجهة المسؤولة عن السيارة؟ وإذا كنت مسافرًا داخل أحد السيارات التي صدمت شخص ما، فهل ستتحمل أنت المسؤولية القانونية أم مالك المؤسسة؟ وماذا سيفعل الملايين الذين خسروا وظائفهم بسبب أتمتة وسائل النقل لكسب قوتهم؟
ومن المخاوف الحالية الأكثر إلحاحًا هو، هل سألك أحد عن رغبتك في أن تكون جزءًا من التجربة التي تجري على الممر التالي وأنت تقل طفلك إلى المدرسة؟، والتشبيه الأمثل في هذه الحالة هو أن شركة أدوية تعطي عقار تجريبي إلى الأشخاص بدون أن تزعج نفسها مقدمًا في اخبتارهم والحصول على موافقتهم. ويبدو أن الحكومات المبهورة بالجائزة لا تلقي بالاً لهذا الأمر.
وعلى المستوى الصناعي، هناك سؤال أكثر من هام، وهو: هل سنتخلى طواعية عن سياراتنا، ونوافق على ركوب السيارات المؤتمتة؟. ويظهر استطلاع حديث أن “75%” من الأمريكيين سيخشى تلك التجربة بشدة.
وعلى مدار القرن الماضي، انشغلت صناعة السيارات ببرمجة عقولنا لنعتقد أن امتلاك السيارة هو مرادف الشخصية والحرية. والآن، هل يجب علينا نسيان كل هذا والجلوس في مقاعد المشاهدين؟، ولم يتضح بعد ما إذا كانت تلك التكنولوجيا ستنجح في الدول المولعة بركوب السيارات مثل دول الخليج، حيث امتلاك أسرع السيارات وأحدثها هو رمز لعلو المكانة الاجتماعية.
ربما نحن على أعتاب الإصابة بانفصام شديد بسبب تطور عبر الاف السنين. ورغم التطور النسبي الذي شهدته التكنولوجيا مؤخرًا، نجد أن السيارة الشخصية – أو الحصان أو الجمل – انعكاس رمزي للعصر الذي كنا نمتلك فيه حرية اختيار المكان الذي نعيش فيه وأسلوب الحياة. وماتزال تلك البرمجة الجينية حاضرة داخلنا ويستغلها عدد لا يحصى من الإعلانات التجارية الخاصة بالسيارات.
ومن ثم، كيف سيكون رد فعلنا بعدما يحاول أصحاب الرؤى التكنولوجية، المدعومين من الحكومات المتملقة في كل مكان، سلب قاطرتنا البخارية وهي آخر بقايا الحريات الجينية التي نتذكرها؟
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، أصبحت المركبات المؤتمتة عرضة بالفعل للهجمات المادية من جانب الأشخاص الذي أعربوا عن غضبهم لأنه لم يسألهم أحد عند رغبتهم في استخدام هذه التكنولوجيا أو طلبوا موافقتهم على إجراء التجارب في شوارعهم.
وكل هذا دون جدوى. وفي تلك الحقبة التي لا قيمة فيها إلا للجديد، فمن السهولة بمكان لشركات أمثال “جوجل” و”تسلا” والسلطات التي تساعدهما رفض هؤلاء الرجعيون الذين يلتمسون سلامة المرور واتجاه التغيير.
وفي النهاية، ربما تنهي السيارات والشاحنات والأتوبيسات ذاتية التحكم تلك المذبحة التي تقع على طرقنا، وتقلل من استهلاك الوقود الحفري. ولكن إذا لم تتوقف الحكومات المفتونة بالتكنولوجيا ومن يعاونها من التكنوقراط التحدث عن المخاوف التي يواجهها السائرون في الشوارع، رجالاً ونساء، فربما تواجه تلك الحكومات ومن يعاونها اضطرابات اجتماعية تجعل من علمية الرجم التي تعرضت لها سيارات شركة “وايمو” مؤخرًا في ولاية أريزونا وكأنها عملية تأييد حماسية لهذه التكنولوجيا.
AFP PHOTO/HANDOUT/GOOGLE