على مدار الثلاثين عامًا الماضية، كانت روسيا إحدى أكبر القوى الأجنبية التي تعمل في منطقة جنوب القوقاز المضطربة. لكن غزوها لأوكرانيا يعني أن العدوين الإقليميين اللدودين — أرمينيا وأذربيجان — سيحاولان الآن الابتعاد عن موسكو.

تهدف كذلك الجهات الفاعلة العالمية والإقليمية الأخرى، تحديدًا الاتحاد الأوروبي وتركيا، إلى استبدال روسيا بصفتها المُحكِّم الرئيسي في النزاعات المستمرة لعقود بين البلدين. وقد سبق أن دعمت تركيا أذربيجان ضد أرمينيا التي اعتبرتها روسيا حليفًا اسميًّا. والآن بعد انشغال الكرملين بحربه على أوكرانيا، تسعى تركيا إلى تغيير الأوضاع الراهنة وتطبيع العلاقات مع أرمينيا، على الرغم من التاريخ المرير بين أنقرة ويريفان. في الوقت نفسه، يحاول الاتحاد الأوروبي زيادة نفوذه في جنوب القوقاز.

ففي 6 أبريل، عقد شارل ميشيل، رئيس المجلس الأوروبي، اجتماعًا بين الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان. التقى الزعيمان في بروكسل وناقشا تنفيذ اتفاقية وقف إطلاق النار الموقَّعة في موسكو عام 2020. أنهت بالفعل هذه الاتفاقية حربًا استمرت 44 يومًا بين البلدين حول منطقة ناغورنو كاراباخ، وإن كان ثمة اشتباكات متفرقة مستمرة حتى يومنا هذا.

نتيجة لهذا الاجتماع، اتفقت أرمينيا وأذربيجان على إنشاء لجنة حدودية مشتركة من شأنها تعيين الحدود بين البلدين و«ضمان استقرار الوضع الأمني ​​على طول الخط الحدودي وفي محيطه». بعبارة أخرى، وافق باشينيان في الواقع على خطة باكو المكوَّنة من خمس نقاط لتطبيع العلاقات مع جارتها الغنية بالطاقة. وتدعو وثيقة أذربيجان كل جانب إلى الاعتراف بسلامة أراضي الطرف الآخر، والامتناع عن توجيه التهديدات، وترسيم الحدود، وفتح خطوط النقل.

ومع ذلك، فإن وصول البلدين إلى اتفاق سلام دائم قريبًا محل شك؛ إذ أن أحزاب المعارضة الأرمنية تعارض بشدة أي اتفاق يجعل آرتساخ (الاسم الأرمني لناغورنو كاراباخ) جزءًا من أذربيجان. والأهم من ذلك أنه على الرغم من أن موقف روسيا في الساحة العالمية ليس قويًا كما كان قبل شنِّ موسكو حربها على أوكرانيا، فما زال الكرملين يتمتع بنفوذ كبير على يريفان.

ونتيجة لاتفاق وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه موسكو عام 2020، انتشر حوالي 2000 جندي روسي في ناغورنو كاراباخ لحماية ذوي الأصول الأرمنية الذين ما زالوا يعيشون في المنطقة. ليس غريبًا إذن أن يسافر وزير الخارجية الأرمني أرارات ميرزويان إلى موسكو في 8 أبريل للقاء نظيره الروسي سيرغي لافروف. ومن المتوقع أن يجتمع باشينيان خلال الأيام المقبلة مع الرئيس فلاديمير بوتين، حيث سيحاول الكرملين بلا شك الحفاظ على دوره كوسيط في جنوب القوقاز.

من ناحية أخرى، سارع علييف إلى إجراء مكالمة هاتفية مع حليفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ فبعد حرب كاراباخ الثانية، تمكنت تركيا من زيادة وجودها في جنوب القوقاز. وفي الوقت نفسه، أقامت موسكو وأنقرة مركز رصد روسي-تركي مشتركًا لرصد وقف إطلاق النار بين أرمينيا وأذربيجان.

لكن بالنظر إلى الواقع الجيوسياسي الجديد، ستواجه روسيا صعوبة في الحفاظ على الوضع الراهن في المنطقة. فعلى الرغم من أن أرمينيا حليفة للكرملين في كل من منظمة معاهدة الأمن الجماعي واتحاد المنطقة الأوروبية الآسيوية، لم يشارك ممثل أرمني في تصويت الأمم المتحدة لتعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان. تعمل أرمينيا أيضًا بنشاط على تطبيع العلاقات مع تركيا، على الرغم من أن أكثر من ثلثي السكان الأرمن يعارضون بشدة إقامة علاقات دبلوماسية مع أنقرة.

ومع ذلك، فقد حذر المحلل السياسي الأرمني أريج كوتشينيان من أن «كيان دولة أرمينيا سيكون مهددًا على المدى المتوسط، إذا لم تعمل الدولة على تطبيع علاقاتها مع أنقرة وباكو». ففي الواقع، لا يمكن لأرمينيا في ظل الظروف الحالية الاعتماد على دعم روسيا الجاد لها، ولذا فمن المتوقع أن تقدم هذه الدولة غير الساحلية، التي يبلغ عدد سكانها نحو ثلاثة ملايين نسمة، تنازلات قاسية من جانب واحد لأذربيجان التي من الواضح أنها فازت في حرب الأربعة وأربعين يومًا.

تتطلع باكو الآن إلى استغلال تركيز روسيا بشكل أساسي على عمليتها العسكرية في أوكرانيا لتحقيق مكاسب في ناغورنو كاراباخ. ففي 25 مارس، وفي أعقاب الاشتباكات بين القوات الأذربيجانية والأرمنية في المنطقة الجبلية، سيطرت أذربيجان على قرية فاروخ التي كانت تحت حماية قوة حفظ السلام الروسية منذ نوفمبر 2020. وفي بروكسل، ورد أن باشينيان وعلييف قد ناقشا أعمال أذربيجان، وإن «لم تؤد المحادثات إلى تقييم مشترك للوضع».

من وجهة نظر يريفان، يجب أن يكون الوضع النهائي لناغورنو كاراباخ موضوع المفاوضات، بينما ترى باكو أن هذه القضية قد حُلَّت في عام 2020 عندما استعادت أذربيجان سيادتها على جزء كبير من المنطقة، وكذلك المناطق المحيطة بها. وبما أن أذربيجان مدعومة بقوة من تركيا، بينما لا تستطيع روسيا حليفة يريفان مساعدة نفسها ناهيك عن أرمينيا، فمن غير المرجح أن يتضمن اتفاق سلام مستقبلي بين البلدين مصير ناغورنو كاراباخ.

ثمة شيء واحد مؤكد، وهو أنه إذا وُقِّعت اتفاقية سلام بين أرمينيا وأذربيجان في بروكسل، وليس في موسكو، فستكون هذه هزيمة جيوسياسية أخرى لروسيا.

 

نيكولا ميكوفيتش محلل سياسي في صربيا يركز عمله في الغالب على السياسات الخارجية لروسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، مع الاهتمام بصورة خاصة بالطاقة و«سياسات خطوط الأنابيب».

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: