قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإجراء بعض المناورات في الشرق الأوسط، خلال عطلة نهاية الأسبوع، حيث اختتم جولة شملت ثلاث دول هي قطر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. وكان هناك بالطبع للحديث عن قضايا متصلة بالسياسات الخارجية، لكن جمهوره الحقيقي كان على بعد آلاف الأميال في فرنسا.
وباقي من الزمن أربعة أشهر للانتخابات الفرنسية المقبلة وجميع المتنافسين على أُهبة الاستعداد لخوضها. وفي يوم السبت، ومع وصول ماكرون إلى مدينة جدة، اختار حزب يمين الوسط الرئيسي مرشحته السيدة “فاليري بيكريس” التي تدير منطقة إيل دو فرانس في باريس. وفي خطاب فوزها، حددت موقفها من القانون والنظام والهجرة والاقتصاد، وهي جميع النقاط المعروفة، والتي من المتوقع أن يركز عليها منافسو ماكرون.
ويأمل الرئيس الفرنسي في الحفاظ على منصبه من خلال تحويل الحوار بعيد عن الشأن المحلي، وهو يعرف أن أفضل فرصه لإعادة انتخابه تتمثل في تشتيت انتباه الفرنسيين عن القضايا المحلية.
وركزت كل محطة في جولته الخليجية على إرسال رسالة مفادها أنه رجل دولة عالمي، حيث كشف في قطر عن خطط لإرسال بعثة دبلوماسية أوروبية مشتركة إلى أفغانستان. وقد احتار الغرب حول كيفية الحفاظ على العلاقات مع كابول دون تقديم اعتراف سياسي بحركة طالبان، وستنشئ خطة ماكرون منظمة مشتركة بين عدد من الدول الأوروبية، مع وجود سفراء، ولكن دون اعتراف دبلوماسي.
وحاول في السعودية إنهاء الأزمة الدبلوماسية بين لبنان والمملكة، حيث رتب مكالمة هاتفية بين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ورئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي. ومنذ انفجار المرفأ في بيروت في صيف 2020، سعى ماكرون إلى تصوير نفسه على أنه بطل، أو ربما حامي، للمصالح اللبنانية.
لكن رحلته إلى الإمارات العربية المتحدة ربما كانت الخطوة الأكثر أهمية على الصعيد الشخصي، حيث وقعت الإمارات صفقة لشراء معدات فرنسية متطورة بقيمة 19 مليار دولار، بما في ذلك 80 طائرة مقاتلة من طراز رافال، وهي أكبر صفقة أجنبية على الإطلاق للطائرات الفرنسية الرائدة. وستلعب هذه الصفقة تحديدا دورا جيدا على الصعيد المحلي، حيث لا يزال ماكرون يعاني من انهيار صفقة لبيع غواصات فرنسية لأستراليا.
وبقدر ما يأمل ماكرون في أن يركز الفرنسيون على نجاحاته في مضمار السياسة الخارجية، إلا إن تلك النجاحات كانت شحيحة على مدى الأشهر القليلة الماضية.
وقد انسحبت أستراليا فجأة من صفقة غواصات بمليارات الدولارات في شهر سبتمبر الماضي، وانضمت بدلاً من ذلك إلى اتفاق استراتيجي مع الولايات المتحدة وبريطانيا. ومثّل ذلك إهانة مزدوجة، فلم يتم فقط تلطيخ سمعة المعدات العسكرية الفرنسية على مرأى ومسمع من العالم، بل أدى ذلك إلى فشل الاستراتيجية التي كانت ستشهد قيام فرنسا باستعراض قوتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ناهيك عن أن ثلاثة من أقرب حلفاء فرنسا كذبوا عليه أو أبقوا ذلك الاتفاق الرئيسي سرا بينهم.
ومثل اتفاق “أوكوس” خيانة كبرى، لكن بمجرد مضي بعض الوقت على ذلك الخلاف، التحمت فرنسا وبريطانيا في صراع سياسي حول المهاجرين الذين يعبرون القناة الإنجليزية أو بحر المانش.
ويعد كل ذلك أهداف كبيرة وسهلة لمنافسي ماكرون، فيمكن تصويره على أنه رئيس لا يستطيع السيطرة على المهاجرين والذي لا يثق به أحد، حتى أقرب حلفاء فرنسا.
ومع ذلك، فإن عامل الحظ، والذي يعد المورد السياسي الأكثر مراوغة والأكثر أهمية، ربما يحالف ماكرون هذه المرة.
فمع خروج الألمانية أنجيلا ميركل من المسرح السياسي، لا توجد شخصية أخرى يمكن أن تمثل قارة أوروبا سياسيا بكل مصداقية، ولم يكن لدى خليفة ميركل “أولاف شولتز” الكثير من الوقت لتأكيد سلطته في ألمانيا، أو تقديم نفسه إلى القارة الأوروبية ككل. وبالنسبة لماكرون المفعم بالطموح، هذه هي اللحظة الحاسمة، وقد استغل تلك الفرصة قبل أسبوعين من خلال توقيع معاهدة ثنائية كبيرة مع إيطاليا.
كما حالف الرئيس الفرنسي الحظ مرة أخرى، فاعتبارًا من شهر كانون الثاني (يناير)، ستتولى باريس الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، مما يمنحه بضعة أشهر ليتبختر على مسرح الاتحاد الأوروبي. ومن المؤكد أن تلك المهمة تحمل معه بعض الصعاب، فبعد مغادرة المملكة المتحدة، لا يزال هناك شعور مناهض للاتحاد الأوروبي داخل فرنسا، والذي يمكن استغلاله. لكن هذا الاحتمال يتضاءل بالمقارنة مع الجانب الإيجابي لذلك الأمر، حيث يمكن رسم صورة إيمانويل ماكرون في هيئة رجل الدولة أمام رجال اليمين المتطرف، الأول “مارين لوبان” متطرفة من الجيل الثاني، والآخر “إريك زمور” والذي أدين مرتين بسبب خطاب يحض على الكراهية، وتلك مقارنة وتنافس في صالح ماكرون.
إن الميزة الكبرى للرئاسة هي أنها تسمح لحاملها بالتصرف واتخاذ القرارات، وفي الجانب الآخر، لا يوجد شيء للمتنافسين سوى الحديث. وإذا تمكن ماكرون من تقديم نفسه كزعيم جديد لأوروبا، أو شخصًا قادرًا على إنجاز المهام في الخارج، أو شخصًا قادراً على حل المشكلات الصعبة في أفغانستان بكل سهولة أو تعزيز التعاون مع روما، فقد يعكس ذلك شيء من الاختلاف والتباين مع منافسيه، مما سيسمح له بالاحتفاظ بكرسي الرئاسة رغم مواجهته لانتقادات محلية.
قد يلاحظ الناخب الفرنسي تبختر رئيسه ما بين القصور الخليجية، مما يعطى ماكرون فرصة للاحتفاظ بكرسيه في الانتخابات القادمة.
يعمل فيصل اليافعي حاليًا على تأليف كتاب عن الشرق الأوسط وهو معلق منتظم الظهور على شبكات الأخبار التلفزيونية الدولية، كما عمل لمنافذ إخبارية مثل ” ذا غارديان” و ” بي بي سي” ونشر تقارير عن الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا.