قبيل قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) في لندن، والتي وافقت الذكرى السبعين لتأسيس الحلف، اندلعت حرب كلامية غير عادية بين القادة السياسيين.

وقد بدأت تلك الحرب الكلامية بتصريح من الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، وصف فيه حلف الناتو بأنه “ميت دماغيًا”، وهذا التصريح كان له ردود فعل فورية، من القادة السياسيين على مستوى القارة الأوروبية، ووصفت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تلك التصريحات بأنها “متطرفة”. أما قادة إستونيا، الذين يرون الناتو على أنه الضمانة الوحيدة ضد العدوان الروسي، قالوا إن تلك التصريحات ترسل “إشارات خطيرة”، وقد دخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الخط، حيث وصف تصريحات ماكرون بأنها “مُهينة” وخطيرة للغاية.

وتلك الكلمات الساخنة ما هي إلا مجرد حطام فوق الأمواج، لكن تحت السطح يوجد تيار قوي يدفع بالحلف إلى الانفصال.

وتصريحات ماكرون تعُد الأخيرة، في سلسلة من التصريحات الساخطة للقادة السياسيين، حول الهدف الذي بات الحلف يسعى إليه. والأهم من ذلك، هو الأسئلة التي أثيرت حول قابلية استمرار المادة الخامسة من معاهدة شمال الأطلسي، والخاصة بالدفاع المشترك، والتي تنص على أن هجوم طرف ثالث على أحد أعضاء الناتو يعد هجومًا على الحلف بأسره.

وتلك المادة تعُد حجر الزاوية بالنسبة لحلف الناتو؛ وبدونها سيصير الحلف مجرد ناد يضم الدول القوية فقط، أو ما يمكن أن نُطلِق عليه تحالف القِلّة. ولو لم يقوم الناتو بالدفاع عن مصالح الدول الأضعف في الحلف، لن تكون هناك حاجة لوجود هذا الحلف من الأساس.

وقبل قمة لندن، نجح ماكرون في إغضاب الكثير من أعضاء الحلف، عبر التساؤل علانية حول ما إذا كان الناتو سيقدم الدعم للدول الأعضاء، إذا ما قرر نظام بشار الأسد الثأر من تركيا؟، وتساءل ماكرون أيضًا عما إذا كانت الدول الأعضاء ستلتزم بتفعيل [المادة الخامسة] في تلك الحالة؟، ولم تكن تساؤلات ماكرون سوى عبارة عن تشكيك وليست للحصول على أجوبة.

وكان السؤال الذي قام ماكرون بتوجيهه يخص تركيا، لكن الإجابة تنطبق على كامل الحدود الأوروبية، خاصة دول البلطيق لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، التي أصبحت مسرحًا لتدريبات الناتو، منذ أن قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم، تلك الدول تشعر بالقلق، جراء احتمالية تخفيض التزامات الضمانة الخاصة بالدفاع المشترك.

وتلك هي المرة الثانية على مدار السنين، التي يتعرّض فيها أمن الحلف بالكامل للتحديات، وخلال العام الماضي تساءل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب علانية، إذا ما كانت أمريكا ستستجيب حال تعرضّت مونتنيجروللهجوم، وهي تعد أصغر دولة عضو في حلف الناتو من حيث عدد السكان.

لذا فإنه إذا ما وضعنا سؤال ماكرون، إلى جانب التعليقات الأخرى حول تركيا جنبًا إلى جنب، فسيكون ذلك مصدرًا للقلق، وذلك لأن تلك المسألة لا تتعلق فقط بدولة واحدة، وإنما تقوّض البنية الكاملة للأمن الجماعي لدول الحلف. وإذا لم يستجب الناتو لنداءات أنقرة؛ فلماذا يقوم بتقديم الدعم لدول البلطيق، أو أي دولة أخرى؟.

والأمر هنا له أهمية خاصة، لأن المادة الخامسة لم يتم تفعيلها إلا مرة واحدة، في ظل أحداث مأساوية، حينما عانت أقوى دولة في الحلف من أكبر هجوم إرهابي في الحادي عشر من سبتمبر 2001. والسؤال هنا ما إذا كان على الدول الصغيرة، أن تتوقّع ذات التضامن من دول الحلف في مواجهة ظروف أو أحداث أقل مأساوية.

وفي ذات الوقت الذي يشكك فيه ماكرون، في مدى التزام فرنسا بتطبيق المادة الخامسة، فهو يطلب دعم أقوى من أعضاء حلف الناتو في منطقة الساحل الأفريقي، حيث منيت فرنسا لتوها بأكبر خسارة بشرية جراء أعمال عسكرية، على مدار ما يقارب 40 عامًا.

وما حدث في الساحل يكتسب حساسية من نوع خاص بالنسبة لماكرون، حيث قام الرئيس الفرنسي صراحة بالربط بين مقتل 13 عسكريًا فرنسيًا جراء تصادم مروحيتين شمالي مالي، حيث يقوم الجيش الفرنسي بقتال الجهاديين، وبين إصرار واشنطن على أن يقوم حلفاءها في الناتو بدفع المزيد من الأموال. وقد قال ماكرون الأسبوع الماضي إن :”فرنسا تقاتل في منطقة الساحل نيابة عن الجميع، ولو أراد أحد رؤية مثال لمسألة المشاركة في التكاليف، يمكن له حضور حفل تأبين ضحايا الجيش الفرنسي، فهناك يمكن رؤية التكلفة التي تدفعها باريس بشكل واضح”.

وهذا يخلق إحساسًا أن ماكرون، القائد الأعلى لأحد أقوى الجيوش على مستوى العالم، يريد من حلف الناتو أن يدعم فرنسا، لكنه في ذات الوقت لا يريد للحلف أن يلتزم بتقديم الدعم لباقي الأعضاء، خاصة تلك الدول التي توجد في المحيط الجغرافي القريب مثل تركيا.

والمثير للحنق هو أن فرنسا، شأنها شأن العديد من الدول الأوروبية الغنية، لا تقوم بتسديد حصتها العادلة من الالتزامات المالية لحلف الناتو.

وفيما يخص تلك المسألة فإن دونالد ترامب على حق، وهو كان أكثر قسوة من رؤساء الولايات المتحدة السابقين، في مطالبته لأعضاء الناتو بتسديد ما عليهم من التزامات مادية. لكن ترامب قام بتوجيه سؤال منطقي للغاية: لماذا يجب على الولايات المتحدة، التي تستطيع الدفاع عن نفسها بمعزل عن الناتو، تسديد أكثر من نسبة 2% من الدخل القومي، كما تنص اتفاقية الناتو، بينما ألمانيا التي تمثل أكبر اقتصاد على مستوى أوروبا، لكنها لا تتمتع بالثقل العسكري مثل فرنسا أو بريطانيا، تدفع أموالًا أقل، بينما تستفيد من المظلة الأمنية للحلف؟.

والواقع يقول وفقًا لإحصاءات حلف الناتو، إن بعض الدول الأوروبية الكبرى تقوم بإلقاء الحِمل على الدول الأصغر، وباستثناء المملكة المتحدة والولايات المتحدة، اللاتي تخصصان أكثر من نسبة 2% من الدخل القومي لكليهما لصالح الحلف وفقا لما نصت عليها اتفاقية الناتو، فانه لا توجد اي دولة اخرى من الدول الخمس التي تأتي في الترتيب كأغنى الدول الأوروبية بعد هاتين الدولتين، تقوم بتسديد النسبة المتفق عليها بل على العكس، هناك دول صغرى مثل لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، تقوم بتسديد نسبة ال2% المتفق عليها لحلف الناتو على الرغم من أن اقتصادات تلك الدول متواضعة نسبيًا.

أما دولة مونتنيجرو، التي تساءل ترامب إذا ما كان سيدافع عنها حال تعرّضت لهجوم، تلك الدولة مثلها مثل تركيا، تدفع أكثر من ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا فيما يخص النسبة المئوية للدخل القومي.

وكانت النتيجة هي أن بعض الدول الصغرى باتت تقدم الدعم للدول الثرية، في ذات الوقت الذي يتساءل فيه القادة السياسيون عما إذا كانت تلك الدول الصغرى ستحصل على شئ ما مقابل المال الذي تدفعه والحقيقة أن تلك الدول الصغرى تقوم بتسديد قيمة وثيقة تأمين لن تنتفع بها مُطلقًا.

والواقع أن الجدل حول المادة الخامسة وأهميتها المستقبلية داخل الحلف، هذا الجدل بات في القلب من مسألة أخرى، وهي ما إذا كان الحلف يعمل كما هو مقرر له من الأساس، وإذا ما كان الحلف يمكنه الاستمرار والبقاء بصورته الحالية، والخلافات بين القادة السياسيين تأتي في صورة الغضب ورفع الصوت لكن تلك الخلافات لها مغزى معين داخل المؤسسات وهو افتقاد الثقة في تلك المنظومة.

وتلك المنظومة ستعمل فقط، في حال أصبحت الدول الأصغر مثل إستونيا أو مونتنيجرو تحت مظلة حلف الناتو. وإذا لم تتوافر لدى الناتو النية في الدفاع عن الدول الأعضاء الأصغر في الحلف، ولو لم يقف الحلف بجانب تركيا إذا ما طلبت ذلك، إذن سيكون الحلف حينها مجرد برنامج لتقديم الدعم الأمني للدول الثرية، وفي تلك الحالة لن يعاني الناتو من الموت دماغيًا فقط، مثل ما أشار الرئيس الفرنسي، لكن الحلف سيصبح كما وصفه ترامب عفا عليه الزمن.

يقوم فيصل اليافعي حالياً بتأليف كتاب حول الشرق الأوسط، كما أنه يظهر كمعلق بشكل متكرر على شبكات التليفزيون الإخبارية الدولية، وقد عمل بالعديد من وسائل الإعلام المعنية بالأخبار مثل غارديان و”بي بي سي” وعمل مراسلاً بالشرق الأوسط وشرق أوروبا بالإضافة إلى آسيا وإفريقيا.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: