بسبب موقع تركيا الجغرافي، والذي هو نقطة التقاء منطقة الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا، باتت الأحداث الواقعة في المنطقة تُؤثر على مصالح تركيا وحساباتها الجيوسياسية والتزاماتها تجاه حلفائها. ولهذا، يتعين على القيادة التركية أن تقيم باستمرار مستوى مشاركتها في الأحداث وطبيعة تلك المشاركة. وتشكل الأزمة الحالية في منطقة البحر الأسود، بين روسيا وأوكرانيا، إحدى الفترات الهامة. والأزمة بالنسبة لتركيا أكبر من مجرد خلاف بين جارتين، والسبب هو أن روسيا هي إحدى الجارتين، وهي القوة العظمى التي كان العداء بينها وبين تركيا على أشده، فضلاً عن مراحل من التعاون الوثيق. ويشهد التاريخ الحديث على أن تركيا عاجزة عن التحكم في الأحداث الجارية بما يخدم مصالحها.

وكان الموقف الروسي والتركي على النقيض في سوريا وليبيا، واليوم في أوكرانيا. وأعربت تركيا بوضوح عن استيائها من الإجراءات العدوانية الروسية، فضلاً عن اعتراضها في وقت سابق على ضم فلاديمير بوتين لشبه جزيرة القرم. ومع ذلك، شهدت العلاقات التركية والروسية فترات من الود، من حيث تعاون الطرفان في سوريا، عندما سمحت موسكو لأنقرة بالهجوم على أجزاء من الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد؛ ومن حيث تبادل التكنولوجيا العسكرية، عندما باعت روسيا لتركيا نظام الدفاع الجوي المتطور”إس-400″؛ وأخيرًا، كما يقول “ستيف كوك” من مجلس العلاقات الخارجية، واتفاق الطرفان على أن النظام الذي تنتهجه أمريكا في المنطقة لا يصُب في مصحلتهما.

ومع ذلك، وبصفتهما خصوم وشركاء، نجح الروس، في جميع الحالات، من وضع الخطط التي تخدم مصالحها وأهدافها، ولم يختلف الأتراك كثيرًا عنها. وبرعت روسيا في إثارة الخلاف بين أنقرة وحليفتها في الناتو وهي الولايات المتحدة الأمريكية. وكان شراء منظومة الدفاع الجوي المتطورة “إس -400” إحدى النقاط الخلافية بين تركيا وأمريكا، وترتب عليها حرمان تركيا من الحصول على والمشاركة في إنتاج طائرة “إف-35” الأمريكية الشبحية المتطورة من الجيل الأحدث. إن تداعيات شراء منظومة الدفاع الجوي “إس-400” هو أحد الأسباب التي جعلت العلاقة بين تركيا وإدارة بايدن الجديدة علاقة سيئة في بدايتها. و من غير المرجح أن يحزن بوتين لهذا.

وباتت تركيا أكثر اهتمامًا بالمسألة الجيوسياسية في ضوء تحركات زعيمها الدؤوب، رجب طيب أردوغان. ومنذ اللحظة التي تولي فيه “أردوغان” منصبه، اهتم أولاً بتحويل تركيا إلى قوة عالمية ذات شأن، وفي أثناء ذلك، جعل من نفسه قائدًا عالميًا يبجله الناس ويتحدثون عنه. ويرى “أردوغان” في قرارة نفسه أنه سيكون الزعيم التركي الذي يغير مسار السياسة العالمية. ولهذا نجد أن السياسية الخارجية تسير بشكل كبير وفقًا للقواعد التي وضعها في عهده.

وبعد 18 عامًا في السلطة، نجح “أردوغان” في تقويض المؤسسات المحلية العامة منها والخاصة، وذلك بدءًا من القضاء وحتى الصحافة. وأهتم “أدروغان” أكثر بالانخراط في السياسة الخارجية لأنها وسيلة لصرف الانتباه عن المشاكل المحلية، مثل الاقتصاد، وزيادة نفوذه في الخارج. وبسبب النجاحات التي حققتها تركيا في ليبيا وقره باغ، حيث لعبت الطائرات بدون طيار تركية الصنع دورًا حاسمًا في قبل الموازين لصالح حلفاء تركيا، وهو ما منح أردوغان المزيد من الثقة والتفاخر.

وربما لهذا السبب، أثار “أردوغان” مرة أخرى مسألة القناة الموازية لمضيق البوسفور، على أمل تحويل الكثير من عمليات النقل البحري بعيدًا عن مضيق البوسفور. وهذا على الرغم من حقيقة أن الملاحة عبر المضائق التركية (بما في ذلك مضيق الدردنيل) تخضع لاتفاقية مونترو لعام 1936، وهي اتفاقية لن يكون في تغييرها أي مصلحة لأي دولة – وفي الغالب روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، حتى وإن كانت القيود التي تفرضها الاتفاقية غير ملائمة في وقتٍ ما. وتبين خرائط القناة مدى غطرسة أردوغان، وأن تركيا بطريقة ما قوة ذات قدرات غير محدودة، وقادرة على التوفيق بين الاحتياجات والمصالح الروسية والأمريكية واحتياجاتها ومصالحها الخاصة.

ويأخذنا هذا إلى المناورات التركية الأخيرة في البحر الأسود.

وهناك مكاسب حقيقية لأنقرة إذا ما حل السلام منطقة الجوار، مما يجعلها مستعدة لتكون وسيطًا بين جميع الأطراف في أي نزاع محتمل. ومع ذلك، لا تستطيع تركيا التصرف كما تشاء في النزاع بين أوكرانيا وروسيا – والسبب الرئيسي هو أن “بوتين” نجح في تحييد تركيا.

وفي البداية، سعى أردوغان إلى الانخراط في لعبة البوكر عالية المخاطر: حيث عرض سرًا على أوكرانيا الطائرات بدون طيار تركية الصنع. وسرعان ما فشلت هذه المناورة السياسية عندما فرض “بوتين” عقوبات على تركيا حيث ألغى رحلة سياحية إلى تركيا مكونة من نصف مليون سائح روسي. واستخدم “بوتين” الورقة نفسها في وقت سابق من عام 2015، عندما أسقط الأتراك طائرة روسية فوق سوريا. فبعد التفاخر بإسقاط الطائرة الروسية واعتباره علامة على البراعة، اضطرت تركيا إلى التراجع والاعتذار من موسكو.

وعلى الرغم من لغته الاستعراضية، فإن أردوغان مبتدئ في السياسة الخارجية. فبسبب أسلوبه العدائي ونزواته غير المتوقعة، نفر الجميع تقريبًا من حوله بمن فيهم دول الجوار المباشر لتركيا وما وراءها، باستثناء قطر وأذربيجان. وأسفرت جهوده لإصلاح العلاقات مع اليونان ومصر وإسرائيل والأوروبيين بشكل عام عن نتائج متباينة. فخلال الأسبوع الماضي فقط، شهدت تركيا واليونان شجارًا عامًا قبيحًا حيث تبادل وزراء خارجيتهما الاتهامات بشأن الحدود البحرية والمهاجرين ومعاملة الأقليات، وبعد ذلك أعرب أردوغان عن سعادته بأن اليونانيين “قد علموا حجمهم”. كما أعلن للتو أن إسرائيل “عدو الإسلام”، وأنه لن يحبذ أي مصالحة معها. وباختصار، بات “أردوغان” وسيطًا غير مقبول.

وفي المقابل، يتميز الرئيس الروسي بالحنكة على صعيد السياسة الخارجية، فلقد خدع الزعيم التركي مرارًا وتكرارًا. وكان بيع منظمومة الدفاع الجوي “إس-400” خطوة رائعة، حيث استفادت روسيا بسرعة من حسابات أردوغان الخاطئة الكارثية وسلمت الصواريخ بسرعة. وبسبب ذلك، استطاع بوتين خلق نزاع عميق بين الولايات المتحدة وتركيا، وهو ما لم تستطع أنقرة الفوز به. ويمتلك بوتين المزيد من أوراق الضغط. ويمكنه الضغط بلطف على تركيا على عدد من الجبهات: بدءًا من الجبهة الأرمنية الأذربيجانية، وصولاً إلى معارضته إنشاء قناة إسطنبول بهدوء، وتغيير مجريات الأمور لصالح الأكراد في سوريا. ورغم أن هذه الأمور ليست حاسمة، لكنها مقلقة بما فيه الكفاية لتركيا.

وهكذا، مهما حدث لاحقًا بين أوكرانيا وروسيا، فالتأثير التركي لن يكون كبيرًا. وفي حين أن أردوغان قد يرغب في وضع بصمة تركيا على منطقة البحر الأسود، فسيكتفي أردوغان على الأرجح بمشاهدة ما يحدث على الشاطئ الشمالي للبحر الأسود. وبهذه الطريقة، يُضحّي أردوغان بمكانة تركيا على صعيد النفوذ الجغرافي.

 

هنري جيه باركي هو أستاذ كوهين للعلاقات الدولية في جامعة ليهاي وزميل أول مساعد لدراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية. من بين الأدوار الأخرى، عمل سابقًا كعضو في فريق تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية، حيث عمل بشكل أساسي على القضايا المتعلقة بالشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط ​​والاستخبارات

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: