يبدو أن الزيارة التي أجراها وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيليرسون، إلى أنقرة الأسبوع الماضي بعد طول انتظار قد حققت غايتها المتواضعة والمتمثلة في تفادي مواجهة عسكرية بين البلدين. غير أنه إذا باتت القدرة على منع نشوب حرب في الشمال السوري بين عضوين في حلف “الناتو” مقياساً لمدى نجاح العلاقات التركية-الأمريكية اليوم، فلعل ذلك كافٍ لوصف الحالة المتدهورة التي وصلت إليها هذه العلاقات التي كان قد أُشيد بها في فترة سابقة على أنها “شراكة استراتيجية نموذجية”.

في مساء يوم الخميس، وبعد عشاء عمل جمع تيليرسون بالرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، استغرق ثلاث ساعات ونصف وتلاه اجتماع مطول في اليوم الموالي بمقر وزارة الشؤون الخارجية التركية، صرح وزير الخارجية الأمريكي خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره التركي بأن البلدين قد اتفقا على خطة مشتركة للاستجابة إلى المخاوف التركية حيال وجود قوات كردية شمال سوريا، مع الاستجابة كذلك للأولويات الأمريكية الخاصة بالتصدي لجهاديي “داعش”. وقد قال تيليرسون خلال المؤتمر: “إننا لن نستمر في التصرف بشكل فردي”، مضيفاً، “سوف نعمل سوية من الآن فصاعداً؛ سوف نضع اليد في اليد”.

وبالرغم من هذه التصريحات التضامنية فإن السؤال يبقى مطروح حول الكيفية التي سيتعاون بها البلدان فعلياً، خاصةً وأن مصالحهما أضحت تتباعد أكثر فأكثر. صحيح أن وزير الخارجية التركي قد قال خلال المؤتمر الصحفي ذاته إن الولايات المتحدة قد وعدت بإخراج “وحدات حماية الشعب” (وهي ميليشيات كردية) من مدينة منبج (التي يهدد الأتراك باجتياحها بمجرد انتهائهم من مدينة عفرين)، ولكن تيليرسون لم يفد صراحة بما يُلزِم بلاده، مكتفياً بالإشارة إلى أن البلدين ينويان تشكيل فريق عمل يعكف على القضايا ذات الأولوية بالنسبة للجانبين.

قالها ونستون تشرشل: “الثرثرة خير من الحرب في جميع الأحوال”، إذ ينبغي التذكير هنا بأن فرق العمل نادراً ما تأتي باختراقات جديدة، وهذا واقع لن يختلف عليه معظم المتمرسين في عالم السياسة الخارجية. فريق العمل هو عبارة عن آلية مفضَّلة لحصر الضرر وإدارة الأزمة حين يتعذر حل القضايا المستعجلة على مستوى قيادات الدول. لذلك فسيكون من السذاجة توقع حدوث أي معجزات إثر هذه النقاشات البيروقراطية في ظل وجود خلافات استراتيجية لا يمكن تجاوزها في الطريقة التي يحدد بها كل من البلدين مصالحه الوطنية والتهديدات المحيطة به.

لقد حان الوقت للاعتراف بأن أيام مجد الشراكة الاستراتيجية بين تركيا والولايات المتحدة قد ولت. فمنذ نهاية الحرب الباردة، لم تعد أنقرة وواشنطن تتشاركان نفس الأعداء ولا حتى نفس التصورات حول التهديدات. فمن الناحية النظرية يمكن اعتبار الإرهاب مرشحاً جيداً للعب دور العدو المشترك لكنه يبقى بديلاً ضعيفاً وغير محدد المعالم عند مقارنته بالاتحاد السوفياتي مثلاً، فبالنسبة للأمريكيين، يعد الإرهاب الجهادي المُمثل بتنظيمي “القاعدة” و”داعش” ومن يسير على نهجهما قضية بالغة الأهمية، أما الجانب التركي فيرى أن الإرهاب ذي الأصول الكردية هو التهديد الوجودي الرئيسي.

ويَكمن السبب وراء تحول سوريا إلى ما يشبه الكابوس في أنها أبرزت مدى استحالة تدبير التباين الحاصل في الموقفين الأمريكي والتركي، في ظل المواجهة بين القوميين الأكراد وتنظيم “داعش”. فشتان بين الاختلاف حول ماهية التهديدات، وبين إقدام شريكك في حلف “الناتو” على التحالف مع من تعتبرهم أنت إرهابيين أكراد لمحاربة ما يعتبره هو الإرهاب “الحقيقي”. بالنسبة لتركيا، مثل هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، بل إن الدعم العسكري الأمريكي للأكراد السوريين قد يضع الولايات المتحدة في مرتبة دولة داعمة للإرهاب من وجهة النظر التركية.

ومن جهتها، لا تزال واشنطن ترغب في إقناع أنقرة بأن “وحدات حماية الشعب” لا تشكل تهديداً إرهابياً بالنسبة لتركيا. غير أن هذه الأخيرة ترى أنه لا يوجد فرق بين “حزب العمال الكردستاني”، وهو مجموعة إرهابية تنشط في تركيا، وبين “وحدات حماية الشعب”. وفي الوقت الذي تصنف فيه الولايات المتحدة “حزب العمال الكردستاني” على أنه منظمة إرهابية، فإنها تعتبر “وحدات حماية الشعب” بمثابة كيان مستقل. وما يساعد على ذلك دون شك هو أن “وحدات حماية الشعب” هي من أكثر القوات القتالية السورية فعالية ضد تنظيم “داعش”. إذ تم تحرير مساحات واسعة من الأراضي السورية من قبضة “داعش”، بما في ذلك الرقة، بفضل “وحدات حماية الشعب”.

إن ما يجعل إشكالية الإرهاب أكثر تعقيداً ضمن العلاقات التركية-الأمريكية هو أن أنقرة تعتبر ضمنياً أن معظم الجماعات الجهادية في سوريا المتصلة بتنظيم “القاعدة” هي جماعات مقاتلة من أجل الحرية حمل أفرادها السلاح ضد نظام بشار الأسد الدموي. وبالتأكيد فإن تركيا تعتبر “داعش” جماعة إرهابية، ومع ذلك، فإنها كانت تفضل هزيمة “وحدات حماية الشعب” على يد “داعش” كنتيجة للصراع في الشمال السوري. وقد صار هناك توجه لدى الدوائر الموالية لأردوغان في تركيا يعتبر الإرهاب الجهادي في سوريا ظاهرة مؤقتة ستختفي بمجرد وصول حكومة شبيهة بالإخوان المسلمين إلى الحكم في دمشق.

فإلى أين تقودنا كل هذه الفوضى؟ سيتوقف ذلك أساساً على حجم ونطاق الحملة العسكرية التركية في شمال سوريا، وعلى مدى قدرة واشنطن على خلق توازن صعب في علاقتها مع شريكتها في حلف “الناتو”، من جهة، ومع حلفائها الأكراد في المعترك السوري، من جهة أخرى. وعلى عكس عفرين، حيث تنشط تركيا حالياً، وحيث كان لروسيا تأثير مهم، فإن منبج وروج آفا هي عبارة عن جيوب تستغلها الولايات المتحدة لتجهيز وتدريب “وحدات حماية الشعب” لقتال “داعش”، حيث إن ما يزيد عن 2000 عنصر من الجيش والقوات الخاصة الأمريكية يتمركزون في المنطقة.

هذا ويشعر الأكراد السوريون بالقلق من أن أصدقاءهم الأمريكيين قد بنوا معهم تحالفاً تكتيكياً ومؤقتاً لا غير. فهو إذن لا يعدو كونه زواج مصلحة سينتهي لفائدة شريكة الولايات المتحدة في حلف “الناتو” بمجرد القضاء على وجود “داعش” في سوريا. ومع ذلك، قد يشعر أكراد سوريا بالارتياح بسبب غياب رؤية استراتيجية مشتركة للعلاقات التركية-الأمريكية، فالأجندة الثنائية للبلدين لا تخلو من قضايا إشكالية كبرى.

إن قرار تركيا شراء منظومات دفاعية صاروخية من روسيا هو اختبار صريح لمدى قدرة ” الناتو” على التسامح وغض الطرف. كما تجدر الإشارة إلى اقتراب تفعيل العقوبات المالية الأمريكية على البنوك التركية الضالعة في خرق العقوبات المفروضة على إيران، في الوقت الذي يتدارس فيه الكونغرس الأمريكي إمكانية فرض المزيد من العقوبات على تركيا لانتهاكها حقوق الإنسان واعتقالها مواطنين أمريكيين على ترابها، واستخدامهم كرهائن مقابل ترحيل رجل الدين التركي المقيم في الولايات المتحدة، فتح الله غولن. وباختصار، قد يبتهج الأكراد قريباً باكتشاف أن تركيا قد أصبحت بالنسبة للولايات المتحدة مشكلة استراتيجية أكثر منها شريكاً استراتيجياً.

AFP PHOTO / POOL / CEM OZDEL

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: