وجدت تركيا نفسها في وضع لا يحسد عليه مع دخول الحرب الروسية في أوكرانيا أسبوعها الثاني، فهناك علاقات جغرافية واقتصادية وسياسية وعسكرية تربطها مع طرفي الحرب، وفي خضم صراع لا يوجد فيه مكان للمهزوم، فإن الخيارات التي ستتخذها أنقرة الآن ستغضب أو تخيب آمال أحد الطرفين، وحسابات تلك الخيارات ستصبح أكثر تعقيدًا مع استمرار الصراع.
وتبدأ التحديات الفعلية للرئيس رجب طيب أردوغان، في حقيقة أن تركيا تنتمي إلى حلف الناتو، وهو ما وصفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه سبب رئيسي لبدء العمليات العسكرية، وبينما يرفض الناتو صراحة التدخل المباشر، إلا أنه قام بحشد قوته السياسية الكبيرة لإظهار جبهة موحدة ضد روسيا.
وهناك ثلاث أطراف تسحب تركيا صوبها، وهي روسيا وأوكرانيا وإجماع الناتو بقيادة الغرب، ويُعد الناتو طرفا محفوفا بالمخاطر، لا سيما بعد شراء تركيا الأخير لصواريخ روسية متطورة مضادة للطائرات S-400 وانزلاق أردوغان نحو الاستبدادية.
كما أن علاقات تركيا الاقتصادية مع أوكرانيا وروسيا كبيرة وواسعة، حيث تستورد تركيا ما يقرب من 45 في المئة من احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا و70 في المائة من القمح (بينما توفر أوكرانيا 15 في المائة من الحبوب). وبنفس القدر من الأهمية، تعد تركيا وجهة صيفية أولى للسياح الروس والأوكرانيين، حيث يزورها 5 ملايين زائر سنويًا، وفي مواجهة أزمة المدفوعات، قد يكون لانهيار موسم السفر الصيفي في تركيا تداعيات خطيرة على اقتصادها.
وفي أثناء ذلك، تبيع تركيا طائرات بدون طيار لأوكرانيا، وهو الأمر الذي أثار استياء موسكو كثيرًا، وقد أثبتت تلك الطائرات فعاليتها في العديد من ساحات القتال، بما في ذلك المعركة الحالية، حتى أعلنت كييف يوم الأربعاء أنها تلقت شحنة جديدة، وتعد الطائرات بدون طيار مصدر فخر للأتراك ودليل على التطور الإلكتروني التركي، لكن من خلال الاستمرار في تصديرها إلى أوكرانيا، لن يؤدي ذلك إلا إلى زيادة غضب ونقمة روسيا.
وهناك قضايا أخرى تتصادم فيها تركيا مع وروسيا، أو تعول فيها أنقرة على حسن نية موسكو لتحقيق أهدافها الاستراتيجية. وتعد سوريا هي أكبر تلك القضايا، حيث تدعم روسيا بشار الأسد الذي لا يزال في السلطة بسبب التدخل الروسي، بينما دعمت تركيا المعارضة. ومع ذلك، أعطى الكرملين شيء من الحرية للعمليات التركية ضد الأكراد السوريين، الذين تتهمهم أنقرة بأنهم حلفاء مع متمرديهم الأكراد. وبالنسبة للأتراك الذين غزوا بالفعل أجزاء من الأراضي الكردية السورية المعروفة، فإن منع ظهور أي كيان سياسي كردي في شمال سوريا هو ضرورة استراتيجية.
ويعد البعد الجغرافي بمثابة تحد آخر، فوفقًا لاتفاقية مونترو لعام 1936، تدير تركيا مضيق البوسفور والدردنيل في البحر الأسود، وهي نقطة خلاف لكل من أوكرانيا وروسيا، وهما قوتان تطلان على البحر الأسود، وقد قامت تركيا حتى الآن بإدارة الاتفاقية باقتدار ونزاهة. وكانت تركيا تفضل البقاء خارج دائرة هذا الصراع، لكن الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” طلب من الأتراك النظر في بنود “الحرب” الخاصة بالاتفاقية، وبالتالي منع عبور السفن الحربية، وقد امتثلت تركيا في 27 فبراير، ووصفت التوغل الروسي في أوكرانيا بأنه “حرب” وتعهدت بإغلاق المضيق في وجه السفن الروسية.
وكان طلب “زيلينسكي” سياسيًا بدرجة أكثر من كونه استراتيجي، بقصد دفع تركيا لاتخاذ موقفً. وقد تم إغلاق المضائق الآن أمام السفن الحربية من جميع الدول الأخرى، بما في ذلك أعضاء الناتو، وقد تكون النتيجة غير المقصودة هي أن إمدادات الإغاثة المستقبلية لأوكرانيا لن ترافقها السفن البحرية لقوات التحالف.
وقد وجه أردوغان انتقادات لحلف شمال الأطلسي في البداية، مشيرًا إلى أن رد التحالف لم يكن قويًا بما يكفي. ومع ذلك، فقد حرص أيضًا ألا يدير ظهره لروسيا أو لأوكرانيا. وكان الحل الذي طرحه هو من خلال تقديم نفسه كوسيط لحل الصراع. وتجنب أردوغان إثارة غضب بوتين من خلال الامتناع عن التصويت في المجلس الأوروبي حول قرار بتعليق عضوية روسيا، ولكن عندما واجه انتقادات، شارك في رعاية قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي أدان الهجوم الروسي.
وقد أعلنت تركيا أنها لن تتبع الغرب فيما يخص تطبيق عقوبات صارمة ضد روسيا، وهناك نوعان من الأسباب لذلك. الأول هو سبب سياسي، حيث خلقت سنوات من الخطاب المعادي للغرب من قبل أردوغان ووسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة أجواء غير مرحبة بالسياسات الغربية، وخاصة السياسات الأمريكية، ويعتقد الكثيرون في تركيا أن بوتين قد خُدع بغزو أوكرانيا حتى يتمكن الناتو من توجيه ضربة حاسمة له، وعليه فإن اتخاذ موقف قوي ضد موسكو قد يثير معارضة داخلية (حتى لو أدى تدمير أوكرانيا واحتلالها إلى زيادة الضغط الخارجي على أنقرة بشكل أكبر).
ويتعلق السبب الثاني والأكثر أهمية بالآثار الاقتصادية للعقوبات على الاقتصاد التركي، الذي يعاني من تقلص احتياطيات البنك المركزي وضعف العملة، فضلاً عن التضخم المرتفع. ومع اعتماده على روسيا لتزويده بالقمح والوقود والسياح، فليس لدى أردوغان مجال للمناورة ولا القدرة على التأثير على الأحداث المستقبلية. وهذا أيضًا يجعل تركيا وسيطًا غير محتملا في الصراع، فلدى الروس طرق عديدة لممارسة الضغط على أردوغان بينما لا تملك أوكرانيا أي من تلك الطرق.
وأفضل ما يمكن لأردوغان فعله هو الاستعداد لعجز ونقص محتمل، ومن بين الخيارات القليلة المتوفرة لديه، هي التسريع في التقارب مع الشرق الأوسط، وخاصة مع مصدري الهيدروكربونات، في حال كان عليه تعويض الواردات الروسية المفقودة.
وفي المستقبل البعيد، ماذا لو تحولت أزمة أوكرانيا إلى تمرد طويل الأمد تدعمه دول الناتو؟ فهنا ستخيب كل التوقعات، حيث ستتفاقم التحديات الاقتصادية بسبب المشاكل العسكرية المحتملة، وكلما طالت مدة هذه الحرب، زادت احتمالية عدم وجود خيار آخر أمام أنقرة سوى تعزيز علاقاتها مع شركائها في الناتو.
هنري جي باركي هو أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ليهاي في بيت لحم، بنسلفانيا، وزميل أول مساعد لدراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية.