تم بذل الكثير من الجهود لأجل عودة تركيا العام الماضي إلى واحدة من أكثر المناطق التي شهدت الوجود التركي: القوقاز، وعلى أي حال فبعد مرور ما يقارب ستة أشهُر على تلك العودة شهدت أنقرة تحقيق قدر يسير من الأهداف الدبلوماسية والسياسية في المنطقة.
وعلى مدار قرون، كانت تركيا ومن خلال وضعها السابق كإمبراطورية عثمانية تسيطر على الجزء الغربي من جنوب القوقاز، بما فيه منطقة ضخمة في غرب جورجيا والمنطقة التي كانت تتبع تاريخيًا غرب أرمينيا، وعقب انهيار الإمبراطورية العثمانية نفضت أنقرة يدها من تلك المنطقة بسبب النفوذ السوفيتي، وحتى عقب انهيار الاتحاد السوفيتي ظلّت تركيا لاعبًا هامشيًا بسبب الضعف الذي كانت تعاني منه وتعاظُم مصالحها في مناطق أخرى.
وقد تحولت جميع تلك الأوضاع إلى النقيض بحلول الخريف الماضي، وبعد مرور ما يقارب ثلاثة عقود شهدت تقديم أنقرة القليل من الدعم لحليفتها أذربيجان التي ينحدر غالبية سكانها من تركيا؛ قرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يلقي بثقل أنقرة لدعم باكو عسكريًا وسياسيًا، وذلك بغرض إعادة إشعال الصراع في منطقة ناغورني-قره باغ بين أرمينيا وأذربيجان، هذا الصراع الذي ظل خامدًا لفترة زمنية طويلة، وقد لعب القادة الأتراك والطائرات المُسيّرة التركية دورًا محوريًا خلال الحرب التي أعقبت التدخُل التركي واستمرت لمدة 44 يومًا لتنتهي بانتصار أذربيجان، وبدا الأمر وكأن تركيا أقدمت على خطوة غير مدروسة بالدخول إلى الفناء الخلفي لروسيا، وفرض نفوذها على منطقة تخضع بالكامل للنفوذ الروسي (ونفوذ بعض الدول الغربية).
لكن ماذا حققت تركيا لذاتها من وراء فرض نفوذها في منطقة القوقاز؟، الأدلة تشير إلى أن أنقرة لم تحقق سوى القليل جدًا من الأهداف على المدى الطويل.
وقد بدأت الصعوبات في الظهور فور انتهاء الحرب بسريان وقف إطلاق النار في مطلع العاشر من نوفمبر الماضي، وقد كان اتفاق وقف إطلاق النار بمثابة اتفاقية ثلاثية شملت أرمينيا وأذربيجان وروسيا، حيث لعبت كل من أذربيجان وروسيا دور المهندس والضامن لتلك الاتفاقية، ولم يكن لتركيا أي دور في إبرام تلك الاتفاقية.
وقد أصر المسؤولون الأتراك مرارًا وتكرارًا على أنهم سيساهمون في عمليات مراقبة وقف إطلاق النار، وكذا المفاوضات المستقبلية التي ستعمل على تحديد وضع إقليم ناغورني-قره باغ، وفي الثاني عشر من نوفمبر أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إن دور تركيا في مراقبة وقف إطلاق النار “سيكون مطابقًا للدور الروسي”، وقد رفض الدبلوماسيون الروس هذا الادعاء، وأعادوا التأكيد على أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصُل إليه في العاشر من نوفمبر لم يضم سوى روسيا وأرمينيا وأذربيجان، وأن الأطراف الأخرى بما فيها تركيا لم تلعب دورًا في إبرام هذا الاتفاق.
ورغم ذلك، تم التوقيع على مذكرة في منتصف شهر نوفمبر لإنشاء مركز مراقبة مشترك لوقف إطلاق النار يضم أنقرة وموسكو، لكن ومع افتتاح المركز أخيرًا في الثلاثين من يناير؛ بات مقر المركز يقع على بعد 10 كم خارج قره باغ حيث يشارك فيه 100 عنصر نصفهم من الأتراك.
في ذات الوقت، وبناء على الاتفاقية الثلاثية التي تم إبرامها قامت روسيا بنشر أكثر من ألفي جندي في قره باغ – مزودين بالأسلحة الثقيلة والمركبات – وبحيث تتعامل تلك القوات بشكل مباشر مع قوات أذربيجان والقوات الأرمينية في قره باغ، وبات الحضور التركي رمزيًا إلى حد كبير لكنه كان أيضًا نافعًا للروس، حيث سمح للقوات الروسية بتثبيت أقدامها على جانبي الحدود بينما أصبح دور أنقرة هامشيًا.
وكانت هناك جهود تركية أخرى للمشاركة في العملية الدبلوماسية المتعلقة بقره باغ لكن تلك الجهود باءت بالفشل، وعلى الرغم من ذلك فإن مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون الأوربي؛ والتي تعُد حتى اليوم المحرك الدولي الرئيسي وراء مفاوضات قره باغ باتت جهودها عديمة الفائدة بسبب الرفض التركي المتواصل لمجهودات تلك المجموعة.
وقد لاقت اقتراحات تركيا لعقد مؤتمرات حوار إقليمية ردود فعل باهتة، بينما قوبلت أكثر تلك المبادرات طموحًا – مبادرة 3+3 (بمشاركة أرمينيا وأذربيجان وجورجيا بالإضافة إلى روسيا وتركيا وإيران)؛ والتي أطلقها جاويش أوغلو بالرفض من جانب كل من أرمينيا وجورجيا، ولم يكن هذا الرفض بمثابة مفاجأة، وقد اتسمت أنقرة بالسذاجة لأنها لم تدرك الشواهد الواضحة على أن تبليسي ستعارض العمل مع موسكو.
وقد باءت محاولات تركيا بالفشل أيضًا من أجل إغلاق جبهة أخرى للصراع في القوقاز، طرفيها تركيا ذاتها وأرمينيا، وخلال الشهور الأخيرة أعلن المسؤولون الأتراك عدة مرات عن نيتهم في إعادة فتح الحدود بين تركيا وأرمينيا، تلك الحدود المُغلقة منذ العام 1993، وإقامة علاقات دبلوماسية بين الدولتين.
وفي هذا الإطار يبدو أن تركيا باتت تسيطر على مُعظم أوراق اللعبة، وإذا ما اتخذت أنقرة قرارًا أحاديًا بإعادة فتح الحدود فإن هذا سيجعل أرمينيا تستطيع فرض الأمر الواقع، وروسيا بالتأكيد ستعمل على تشجيع تلك الخطوة؛ لأن موسكو حينها ستتمكن من تأسيس منطقة تشرف على أراضِ تابعة لأذربيجان وأرمينيا تعُد بمثابة حلقة وصل بين روسيا وتركيا.
لكن تركيا أظهرت القليل من إدراك الحساسية السياسية للوضع في أرمينيا، حيث عمد أردوغان على وجه الخصوص إلى إطلاق تصريحات متكررة للهجوم على يريفان ودفاعًا عن باكو، دون إظهار أدنى حد من التعاطف بسبب وقائع الإبادة الجماعية ضد الأرمن – ناهيك عن الدعم المُطلق الذي قدمته أنقرة لباكو خلال الحرب الأخيرة – لذا فإن فرصة إقامة علاقات حقيقية بين تركيا وأرمينيا باتت ضعيفة للغاية.
ومن ثم ما الذي يجب على أنقرة إظهاره خلال الشهور التي تلي الحرب في القوقاز؟، وقد عمدت إلى تقوية العلاقات مع أذربيجان، لكن حتى هذا الأمر بات يخضع للسياسة الخارجية الآذرية التي تعمل بحرص على التوازن في العلاقات مع روسيا والدول الغربية، ولم تنجح تركيا في تحقيق تقدُم ملموس في سبيل تثبيت ذاتها كشريك ثنائي أو متعدد الأطراف مع أيًا من جورجيا أو أرمينيا، كما أظهرت أنقرة القليل من إدراك طبيعة ديناميات تلك المنطقة، وفي هذا الإطار فإن دور تركيا في القوقاز لا يختلف كثيرًا عن دور إيران: قوة استعمارية سابقة كانت تسيطر يومًا ما على نصف تلك المنطقة، لكن نفوذها اليوم بات محدودًا للغاية.
وسوف يتطلّب الأمر الكثير من الدِقة والبراعة إذا ما أرادت أنقرة حقًا بسط سيطرتها على منطقة القوقاز.
نيل هاور، محلل أمني يقيم حاليًا بمدينة ستيباناكيرت في ناغورني قره باغ، حيث يقوم بمتابعة الحرب بين أرمينيا واذربيجان، وهو في الأصل يقيم في مدينة تبليسي عاصمة جورجيا، ويتركز عمله حول السياسة والأقليات والعنف في منطقة القوقاز إلى جانب قضايا أخرى.