أغرقتنا أزمة أوكرانيا في بحر متلاطم من المعلومات وبصورة مفاجئة، فبعد أسابيع من التحذيرات حول حرب محتملة على أوكرانيا والتي سبقها سنوات من العداء المحتدم، زحف الجيش الروسي إلى البلاد وغير بسرعة الجغرافيا السياسية للعقود القادمة. وفي غضون دقائق من الغزو، بدأت قنوات الأخبار العالمية في تغطية أخبار الحرب المستعرة ولم تتوقف منذ ذلك الحين، وفي حين أنه من الأهمية بمكان تغطية أخبار الحرب ومعاناة الشعب الأوكراني بأكبر قدر ممكن من الشفافية، فإن تدفق المعلومات عبر شاشات هواتفنا يخفي في طياته نوعًا من الضرر. وتضيف أزمة أوكرانيا تحدي آخر إلى أزمتنا المتعلقة بالحمل الزائد للمعلومات، وتلحق الضرر بالصحة العقلية الجماعية بطرق كثيرة.
ولنبدأ الحديث حول العوامل المباشرة المتعلقة بحرب أوكرانيا، فنظرًا لطبيعة منصات التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك، فقد اتخذ الصراع بُعدًا شخصيًا للكثيرين حول العالم، حتى لو لم تكن لدينا أي صلة بأوكرانيا أو روسيا، فنحن نشعر بأن الحرب قريبة منا وتعصف بنا أحداثها. فهل تلوح علامات حرب عالمية جديدة في الأفق؟ وهل الاقتصاد العالمي على وشك الدخول في ركود طويل الأمد؟ يمكن لشخص ما أن يجلس في منزله في جاكرتا أو بوينس أريس، ويتصفح تويتر ويشعر كما لو أن أحداث أوكرانيا تجري بجوار منزله، وتزداد حدة هذا الوضع كون شركات وسائل التواصل الاجتماعي لها مصلحة خاصة في بالحفاظ على تفاعل المستخدمين ضمن منصاتهم، فتلك هي الطريقة التي يجنون من خلالها الأرباح.
ولاحظ الكاتب جيمس جريج بكل حنكة أنه من المنطقي “القلق بشأن ما قد يحدث بعد ذلك، ولكن يجب أن نضع في حسابنا أن تلك الأحدث تدور في أوكرانيا الآن، ونحن لا نتعرض للقصف ولا يتم طردنا من منازلنا ” ويواصل غريغ التحسر على ردة الفعل العفوية تجاه النزاع من قبل الكثيرين على وسائل التواصل الاجتماعي، فقد وضع الكثيرون أنفسهم في مركز الأحداث بسبب الميل إلى وضع الذات في قلب هذه المرحلة التاريخية.
ولفهم كيف وصلنا إلى هذا الحال، نحتاج إلى التفكير في كيف غير الإنترنت طبيعة علاقتنا بالمعلومات، إن مقدار الوقت الكبير الذي نقضيه في التحديق بشاشات هواتفنا الذكية غير طريقة تعاملنا وفهمنا للمعلومات، فنحن الآن نقرأ بشكل مختلف عما كنا نقرأ عليه قبل عقود فقط، كما تم التقليل من فترة انتباهنا، وتعكر صفو منامنا بفضل الضوء الأزرق المستمر لشاشاتنا. وحرب أوكرانيا هي أحدث وأخطر مثال على التحول في كيفية تعاملنا مع المعلومات، ربما من المدهش أن هذا التغيير أثر بعمق على صحتنا العقلية ويمكن رؤية ذلك الأثر بوضوح في تغير جوانب أزمة منتصف العمر.
وبينما قد يبدو الأمر وكأنه قفزة إلى السطح، لكن أزمة منتصف العمر في عصر الإنترنت هي ديناميكية رئيسية في مسارات الصحة العقلية، أصبحت أزمة منتصف العمر، والتي حظيت بشعبية على يد عالم النفس السويسري كارل يونغ، وهي فترة تحول كبير نشهدها جميعًا في منتصف العمر تقريبًا بغض النظر عن الثروة والوضع الاجتماعي والتنشئة. ففي الثقافة الشعبية، يتم التعبير عن أزمة منتصف العمر من خلال اهتمام البعض بالسيارات الرياضية الفاخرة لاستعادة جانب من جوانب الشباب والحيوية المفقودة. ولكن الفترة التحويلية تتعلق بعلاقة الفرد بالذات أكثر من تعلقها بالأمور المادية.
وبالنسبة لـ كارل يونغ، يُطلب من الأنسان في منتصف العمر “تحقيق ذات حقيقية ومتوازنة تعترف بكل جانب من جوانب الشخصية.” وعندما كان يونغ يعمل في أوائل القرن العشرين، حدثت تلك الأزمة بشكل عام في المرحلة العمرية بين 40 إلى 50. وفي تلك المرحلة، يؤسس الكثيرون حياتهم المهنية وينشؤون أسرهم، وتظهر الصدمة العاطفية المكبوتة إلى السطح في هذه المرحلة عندما نبدأ في مواجهة دنو الموت والأجل. والتحدي، بالنسبة ليونغ، هو في الانسجام نفسيا مع جميع جوانب الذات، وهي عملية سماها التفرد، وقال يونغ إن “منتصف العمر هو الوقت المناسب للتخلي عن الأنا المهيمنة والتفكير في المغزى الأعمق للوجود البشري”.
فكيف يمكننا التفكير في المعنى الأعمق للوجود البشري إذا كنا ملتصقين بشاشات هواتفنا نتابع استفرام وتوتير ومنخرطين في متابعة تعليقات لا نهاية لها حول النزاعات البعيدة عنا والتي لا تؤثر بشكل مباشر على تجربتنا الحية؟ إن الحرب الأوكرانية ليست سبب أزمتنا العقلية، ولكنها مثال يبين كيف نفقد أنفسنا في مواجهة التدفق المستمر للمعلومات الذي نعيشه كل يوم. فمن الجيد القلق بشأن مصير أوكرانيا وكيف ستتغير الجغرافيا السياسية، لكن عندما تستهلكنا تلك المعلومات كل يوم، فإننا نغفل عن المعنى الأعمق للوجود البشري، ويصبح “التفرد” شبه مستحيل إذا كان المرء يتفحص هاتفه الذكي باستمرار.
وقد حولت الثقافة الشعبية أزمة منتصف العمر إلى مزحة لدرجة معينة، ولكن تلك المرحلة مهمة وربما إيجابية، فإذا أخذنا الفرصة على محمل الجد، فقد تكون فرصة نادرة لكي نتعرف على حقيقة الذات، ونظرًا للمصالح المالية لشركات التكنولوجيا المتمثلة في إبقائنا على الإنترنت، فإننا نواجه تحديات غير مسبوقة في التغلب على أزمات منتصف العمر. لقد حان الوقت لإعادة النظر في أزمة منتصف العمر واعتبارها مدخل حيوي لتحسين الصحة العقلية.
جوزيف دانا هو كبير المحررين في مجلة إكسبونانشال فيو، وهي نشرة إخبارية أسبوعية حول التكنولوجيا وتأثيرها على المجتمع، وقد شغل سابقًا منصب رئيس تحرير “إميرج 85″، وهو مركز يستكشف التغيير في الأسواق الناشئة وتأثيره العالمي.