لأنها الدولة الوحيدة في العالم التي تصف نفسها بأنها “موطن اليهود”، ترى إسرائيل في نفسها أنها قائدة المجتمعات اليهودية حول العالم وصاحبة الحق في منح الهوية اليهودية الحديثة. وتكمن المشكلة في عدم الاتفاق حول تعريف “اليهودي” أو كيف يمكن دمج الديانة اليهودية في تلك الدولة القومية الحديثة. لم تكن النقاشات حول هاذين الأمرين وليدة اللحظة، غير أنها بلغت ذروتها في الأشهر الأخيرة بعد إقرار البرلمان الإسرائيلي لقانون القومية المثير للجدل واعتقال أحد الحاخامات الأمريكيين وهو ما يؤكد على أولوية التطرق إلى التحفظات الخاصة بالحريات. ويضرب الانقسام أركان المجتمع اليهودي بسبب قانون اليهودية، وأصبح الآن وجود الدولة قضية مصيرية. وبالنظر إلى طبيعة الصراعات المتعددة التي تخوضها إسرائيل داخليًا وخارجيًا، نجد أن الانقسام الداخلي يعصف وبشدة بعوامل استقرار المجتمع الإسرائيلي وذلك بالنظر إلى القرارات التي تتخذها “تل أبيب”، وبالنسبة للفلسطينيين وغيرهم من شعوب الدول الأخرى في منطقة الشرق الأوسط، تعتبر السياسات الداخلية لإسرائيل لها نفس الأهمية التي تحظى بها المواقف الخارجية لإسرائيل.
ومنذ عقود وإسرائيل تسوق نفسها على أنها موطن الليبرالية الغربية في الشرق الأوسط. وتدعي آلة العلاقات العامة في “تل أبيب” دومًا أنها الدولة “الديمقراطية الوحيدة” في المنطقة، غير أن الواقع يختلف كثيرًا عن قولها هذا. وتمارس العقيدة الأرثوذكسية القديمة دورًا مركزيًا في الحياة المدنية والسياسية، وذلك بالرغم من دور حركة الصهيونية الحديثة في إنشاء إسرائيل في العام 1948. وكان أوائل القادة الصهاينة من الأوربيين الذين احتضنتهم الصهيونية، واليهود العلمانيين الذين تنتابهم مشاعر متناقضة تجاه الأرثوذكسية. وبخلاف دعم إنشاء الدولة الدينية اليهودية، يعتقد هؤلاء القادة أن الدولة القومية اليهودية ستؤدي في نهاية المطاف إلى سهولة اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية.
وبالرغم من ذلك، أجبرت الحركة الصهيونية على مواجهة الدولة الدينية غير أنها قبلت بذلك غير راضية، حيث كان رجال الدين اليهود يعادون المشروع الصهيوني ويرون أن عودة المسيح فقط هي السبيل لإعادة أمجاد دولة اليهود. كانت الدولة اليهودية الشبيهة بالطراز الأوروبي العلماني تُعتبر في الأساس كيانًا مرتدًا، ورغم ذلك، احتاج قادة الصهاينة إلى الدعم الذي قدمته المؤسسة الأرثوذكسية، وأنهوا في نهاية المطاف علاقتهم بالعديد من المجتمعات الدينية حول العالم. ونظير عدم الخدمة في الجيش أو المشاركة في الحياة المدنية العامة، انتقلت المجتمعات الأرثوذكسية إلى إسرائيل وأسست شبكات من المؤسسات الدينية التعليمية وصبغة الدولة بطابع التدين.
وكان أهم ما تضمنته تلك الصفقة هو تنازل دولة إسرائيل الناشئة عن إدارة الشئون المدنية كالزواج والطلاق ومنحها إلى المؤسسة الدينية. وبهذا أصبحت الأرثوذكسية هي صاحبة القرار في تعريف من هو “اليهودي”، ومن له الحق في ممارسة حقوقه المدنية كاملة. وترجع جذور الانقسام الديني الذي يعصف بالبلاد في الوقت الحالي إلى الفترة التي كانت مظاهر الديانة الأرثوذكسية تطغى على خصائص الدولة المدنية الإسرائيلية.
وتعرف اليهودية الأرثوذكسية اليهودي على أنه شخص ولد لأم يهودية، ولم يتغير هذا المفهوم الأمومي لليهودية منذ ألاف السنيين وأصبح الآن هذا المفهوم صداعًا مزمنًا لدى السلطات المعاصرة. فهل ستحرم إسرائيل من يواجهون اضطهاد معاداة السامية في أوروبا من طلب اللجوء إلى دولة “اليهود”؟ والإجابة هي “لا”، غير أن قبولها لأي شخص “كيهودي” بشرط أن يكون أحد أجداده من جهة الأب أو الأم يهوديًا هو أيضًا نفس التعريف المثير للقلق والذي استخدمه “أدولف هتلر”.
ومنذ ذلك الحين والواقع يشهد خلاف ذلك حيث أن كل من كانت أمه غير يهودية لم يحصل على حقوقه المدينة كاملة كالقدرة على الزواج بشكل قانوني داخل إسرائيل لأن القائم على تنظيم أمور الزواج هم حاخامات الأرثوذكس.
وفي ظل التغيرات التي تشهدها الديانة اليهودية في جميع أنحاء العالم، أصبحت النسخ “العلمانية” من هذه الديانة هي “القاعدة”، ففي الولايات المتحدة الأمريكية، وهي موطن لأكثر من ستة ملايين يهودي، أصبحت النسخة الإصلاحية من الديانة اليهودية واحدة من أكثر المعتقدات انتشارًا في تلك الدولة. ويسود في هذه النسخة زواج الأقارب، وترتفع نسبة من يصنفون أنفسهم كيهود ولم تكن أمهاتهم يهودية.
وفي الوقت الذي أعربت فيه تلك المجتمعات عن امتعاضها الشديد من التوجه السياسي الذي تسلكه إسرائيل وطريقة تعاملها مع الفلسطينيين، فإنهم يدينون أيضًا بالولاء للدولة اليهودية، وفي المقابل تواجه تلك المجتمعات مشكلة عدم اعتراف الدولة اليهودية بهم كيهود. وعلى مدار العقد الماضي، تسارعت وتيرة هذا الانقسام في المدن اليهودية المقدسة، فعند حائط البراق “المبكى” وهو أقدس بقعة في الديانة اليهودية، تحظر السلطات الأرثوذكسية الاختلاط عند ممارسة الشعائر الدينية بخلاف الحال في في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يمارس الرجال والنساء شعائرهم معًا.
وفي هذا الصيف، تم اعتقال أحد الحاخامات المحافظين البارزين قادمًا من أمريكا بتهمة تنظيم مراسم زفاف غير متوافقة مع الديانة الأرثوذكسية. وترغب إسرائيل من خلال هذا الإجراء الوحشي إرسال رسالة واضحة إلى مجتمعات الشتات: ومن المعلوم أن إسرائيل لا تقبل بأي شكل من أشكال اليهودية سوى اليهود الأرثوذكس.
ويشكل هذا الأمر أزمة وجودية للطبقة السياسية في إسرائيل، حيث تعتمد تلك الطبقة السياسية على الدعم المالي والسياسي من المجتمعات اليهودية حول العالم. والسؤال هنا، كيف للقادة الإسرائيليين التعويل على دعم المجتمعات اليهودية الأمريكية في الوقت الذي لا تسمح فيه إسرائيل لتلك المجتمعات بممارسة الدين بالطريقة التي تناسبهم؟ علاوة على ذلك، سيطرة الأرثوذكس على الحياة المدنية والأنظمة القضائية يناقض الرواية الإسرائيلية عن انها واحة من الحرية في الشرق الأوسط – ومن الحجج التي يسوق لها الدين الأرثوذكسي هي آماله في كسب دعم غير اليهود خارج إسرائيل.
ومنذ عقود تحاول الحكومة الإسرائيلية صرف الأنظار عن هذا الجدال الداخلي، وظلت تستخدم الصراع الفلسطيني كأداة مناسبة لتشتيت الانتباه عن هذا الجدل الداخلي. والحجة التي سوقها الساسة في إسرائيل هي أن الإسرائيليين لن يكونوا طرفًا في أي سجال بشأن الدين في الوقت الذي يحيط بهم الأعداء من كل صوب وحدب، وهذا معناه أن التهديد الوجودي لإسرائيل أصبح أكثر أهمية من التحديات المجتمعية الداخلية، غير أن فعالية هذه الحجة آخذ في الاندثار.
وفي ظل تمرير مشروع قانون الدولة القومية والذي يسعى للتأكيد على الطابع اليهودي لإسرائيل، لم يزد هذا الجدال إلا تفاقمًا، ومن ثم، أصبح الانقسام الداخلي للدولة يهدد أمنها أكثر من تصور أي تهديد خارجي يحدق بها. وحيث أن صبر اليهود الأمريكيين، بصفة خاصة، بدأ في النفاد بشكل ملحوظ، وسيكتشف المسؤولون الإسرائيليون أن تشتيت الانتباه بورقة القضية الفلسطينية لم تعد بنفس القوة التي كانت عليها سابقًا، وها هي اللحظة التي تكشف عن كل هذا.
AFP PHOTO/THOMAS COEX