هناك ما يقرب من مليوني نسمة يعيشون تحت الحصار في قطاع غزة، وواقع الأمر أنه حصار عسكري، حيث استمر لمدة 11 عامًا منذ صعود حماس إلى سدة الحُكم في القطاع الساحلي الذي بات مطوقًا بإحكام، وخلال تلك الفترة حاولت إسرائيل الإطاحة بحماس من حُكم قطاع غزة لكنها فشلت، لكن هذا لا يعني أن حركة حماس مُعرّضة لفقدان مقاليد الحُكم في القطاع، وبينما تتحدّث البيانات الإسرائيلية الكاذبة عن قصة أخرى؛ فالحقيقة تقول أنه على مدار الأسابيع الماضية تحاول إسرائيل إغراء حركة حماس بغرض منع اندلاع ثورة شعبية قد تمثل تهديدًا شديدًا للوضع الراهن في فلسطين.
وخلال إحياء الذكرى السنوية ليوم الأرض التي توافق الثلاثين من مارس؛ دخل عشرات الآلاف من الفلسطينيين في مواجهات مع الجنود الإسرائيليين على حدود قطاع غزة هذا العام، وقد زحف الفلسطينيون وبعضهم مسلح بالحجارة من كل حدب وصوب تجاه حدود قطاع غزة التي باتت عبارة عن حصون منيعة للجيش الإسرائيلي، وحدث هذا عقب صلاة الجمعة، وشارك الرجال والنساء والأطفال في هذا الاحتجاج الذي امتد ليشمل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وخلال فصل الصيف تعرّض هؤلاء المحتجون لأخطار شديدة خلال المواجهات التي اندلعت مع الجيش الإسرائيلي على حدود قطاع غزة، والواقع أن ثلثي سكان قطاع غزة هُم من اللاجئين أو من أبنائهم وأحفادهم، لذا لم يكن من الغريب أن يكون يوم الأرض بما له من رمزية، وكذا إحياء ذكرى قيام دولة إسرائيل المعروفة بالنكبة بمثابة شرارة لسلسلة من الاحتجاجات التي باتت تُعرف باسم “مسيرة العودة الكبرى”.
وسارعت إسرائيل بإلقاء اللوم على حركة حماس فيما يخُص اندلاع تلك الاحتجاجات، وحجتها أن الحركة الإسلامية باتت معدومة الخيارات مما أسفر عن صراع غير مسلح من أجل تغيير موازين القوة داخل قطاع غزة، واللافت للنظر أن سكان قطاع غزة لم يكن لهم دور بارز في هذا الصراع الجديد، والواقع أن تلك الاحتجاجات التي انطفأ لهيبها لكنها لا تزال قادرة على جذب عشرات الآلاف، باتت تمثل “القوة الثالثة” على مستوى قطاع غزة، فقد بدأت تلك الاحتجاجات كحركة شعبية قام بتنظيمها مجموعة من البشر استبد بهم التعب، والقوة الحقيقية لهؤلاء المحتجين بدأت في الظهور الآن فقط.
وتلك الحركات الاحتجاجية ليست بجديدة على فلسطين، وعلى مدار التاريخ الفلسطيني، وهناك حركات احتجاجية مشابهة كانت نتيجة لمظالم تعرّض لها شعب تحت الاحتلال، وتلك الحركات كان وراءها العديد من الكيانات السياسية الكبيرة في أوقات مختلفة، بما فيها السُلطة الفلسطينية وحركة حماس وإسرائيل.
والواقع أن إسرائيل وحركة حماس هما القوتين الخاسرتين إذا ما حدثت ثورة شعبية حقيقية في قطاع غزة، والحقيقة أن القوتين فشلتا في احتواء تلك الحركة الاحتجاجية أو فهم الدوافع الحقيقية وراءها، أو حتى تقييم مستقبل تلك الاحتجاجات، وهؤلاء المحتجين لم يخاطروا بحياتهم لمجرد أن حماس طلبت منهم ذلك، وقد اختار هؤلاء مواجهة إسرائيل لأنهم ليس لديهم ما يخسرونه، وبعد عقد من الزمان عاشه هؤلاء في عُزلة وفقر مدقع فقد طفح بهم الكيل، والمعروف أن الشخص اليائس يكون أشد خطورة.
وعلى هذا الأساس، فقد كان الرد الإسرائيلي على المحتجين متوقعا الا انه كان سريعا. فقد قامت اسرائيل برد عسكري فوري، قد حول الاحتجاجات الى تهديدا للامن تخطط له حماس. وقد اعتبرت إسرائيل المحتجين بمثابة تهديدا مسلحا بدلا من التعامل معهم على انهم سكان مدنيون لديهم تظلمات مشروعة من الحصار وقيادة حماس، وفي الضفة الغربية لا تبطش إسرائيل عادة بالاحتجاجات المدنية، بذات القوة. ومن ثم، فمن الواضح ان الخبراء العسكريين قد ادركوا سريعا مدى خطورة دخول عشرات الالاف من الفلسطينيين العزل في نزاع.
وعلى الرغم من مقتل وإصابة الآلاف من المحتجين؛ إلا أن الرد العسكري لم يفعل الكثير من أجل سحق أساس تلك الحركة الاحتجاجية، وقد اتسم قادة إسرائيل بالحذر فيما يخُص الدخول في مغامرة عسكرية جديدة في قطاع غزة، على الرغم من أن الهجوم على غزة كان أحد معايير تل أبيب في الماضي، وبينما يظل الحل العسكري حاضرًا في أذهان قادة تل أبيب؛ فإن تركيز إسرائيل الآن ينصب على تحسين الأحوال المعيشية في قطاع غزة، وتلك هي القصة الملفتة للنظر فيما يخُص مسيرة العودة الكبرى، وهي أيضًا القصة التي حظيت بالقليل من التغطية.
وبمساعدة مصر تعمل كل من إسرائيل وحركة حماس على زيادة واردات القطاع من الوقود، ودفع رواتب الموظفين المدنيين، وإعطاء تصاريح لخمسة آلاف شخص من سكان قطاع غزة لأجل العمل في إسرائيل، والمثير للعجب هو أن إسرائيل لم تقم بتجديد مطالبتها لحركة حماس بالتخلّي عن إدارة المعابر أو جمع الضرائب لصالح السُلطة الفلسطينية، وذلك على الرغم من المطالبات المستمرة في هذا الخصوص والتي قام بها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، والواقع أن هذا ما هو إلا ضمادة صغيرة تغطي جرحًا كبيرًا، لكن بالنظر للموقف الإنساني الفظيع الذي يشهده قطاع غزة فإن تلك المسائل لا يمكن التغاضي عنها.
ومن وجهة نظر محلل إسرائيلي؛ فإن تل أبيب تقوم بمحادثات غير مباشرة مع حركة حماس من أجل إنهاء الاحتجاجات ومعالجة المخاوف التي يشعر بها غالبية سكان قطاع غزة، وهذا هو الخطأ الرئيسي الذي يكشف عن الواقع السياسي المزعج في كل من إسرائيل وفلسطين، فغالبية سكان القطاع يريدون تحسين أحوالهم المعيشية اليومية، وإسرائيل كقوة الاحتلال غير قادرة أو غير راغبة في العمل مع غالبية سكان القطاع من أجل تحقيق هذا الهدف البسيط، ناهيك عن الوصول لتسوية سلمية عادلة، وبدلًا من ذلك فإن تل أبيب تُفضِل اللجوء إلى الفسدة والعاجزين من الفلسطينيين مثل السُلطة الفلسطينية وحركة حماس من أجل الحفاظ على مكتسبات الاحتلال الإسرائيلي.
والحقيقة أن مسيرة العودة الكبرى أثبتت مرة أخرى قوة التعبئة الشعبية في سبيل كسر جمود الحالة الراهنة، كما نجحت تلك المسيرة في تسليط الضوء على مدى فهم تل أبيب لعملية قمع الاحتجاجات عبر الرد عسكريًا، كما سلطّت الضوء على الإكراه الذي تعاني منه السياسة الفلسطينية، والحفاظ على الأسلوب المعقد الخاص بالسيطرة على الحياة الفلسطينية، وربما نجحت مسيرة العودة في الوصول للنتائج الثلاث، لذا فإن إسرائيل لم تستمتع بوضعها كمركز قوة.
AFP PHOTO/SAID KHATIB