محمد شيمشك، واحدًا من التكنوقراط صغار السن ممن يتصفون بالحماسة والجرأة، وكان منذ أسبوعين واحدًا من المسؤولين القلائل داخل الحكومة التركية الذين يحاربون لكبح جماح الأزمة المالية والاقتصادية التي تضرب بهذا السوق الهام الناشئ، غير أنه وبعد أن ضمن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” ولاية جديدة في الانتخابات العامة التي جرت في شهر يونيو/حيزران، طرد “شيمشك” من منصبه بدون أي سبب، ليحل محله صهر الرئيس “رجب طيب أردوغان” كوزيرٍ للمالية، وهي الفاجعة التي ضربت بأركان المستويات العليا للحكومة التركية. ومع أن تلك المكائد كانت مقتصرة في وقت ما على تركيا، أظهرت الأزمة المالية والاقتصادية الحالية أنها تشكل تهديدًا للأسواق الأخرى الناشئة والاقتصاد العالمي. وبالنظر إلى الأسواق الناشئة التي تتأثر بفعل الاقتصاد التركي، يتبادر إلى الأذهان سؤال بسيط وهو، ما مصير الجهود التي قام بها “شيمشك”؟
وبالرغم من التغطية الإخبارية الساخنة، لم ترد أي أخبار جديدة أو مفاجئة بشأن الأزمة التركية إلا القليل عنها. وسعيًا منه لتغيير الحكومة لتأمين سلطته غير المحدودة والتي باتت قريبة، وضع أردوغان بلاده في خطر اقتصادي داهم، وبعد أن تجاهل نصيحة مسؤولي المصارف المركزية بخصوص رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم، والتحذير الذي أطلقه من على شاكلة “شيمشك” بخصوص عجز الحسابات الجاري الخطير الذي تتعرض له تركيا، ركز أردوغان على الأهداف قصيرة الأجل والتي ستكسبه الأصوات في الانتخابات الهامة، وكان يردد دومًا مقولته “سنراعي كل شيء بعد أن يضمن حزب العدالة والتنمية الوصول إلى السلطة،”، ويشير مصطلح “إيه كيه بي” إلى العبارة التركية “حزب العدالة والتنمية والذي ينتمي له الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”.
ومن المفارقات، أن بزوغ فجر الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” وحزب العدالة والتنمية كان بفضل المناورات الاقتصادية الذكية والتي وضعت تركيا في مصاف الأسواق الناشئة الأكثر جذبًا للاستثمار بعد الأزمة المالية العالمية المدمرة في عام 2008، ولما كان المستثمرون يبحثون عن أسواق اقتصادية مثل البرازيل وجنوب أفريقيا للحصول على عائدات أفضل من تلك التي يحصلون عليها في الدول المتقدمة التي تعاني من ركود اقتصادي أو تباطؤ نموها الاقتصادي، بدا الاقتصاد التركي المفضل لديهم، ولأن تركيا تتميز بموقعها الجغرافي المثالي والذي يربط بين الشرق والغرب، وقطاعها الاقتصادي المربح والذي يتضمن الإنشاء والسياحة والزراعة، راهن الجميع على تركيا. علاوة على ذلك، شكلت السياسة الإقليمية المعتدلة لحزب العدالة والتنمية التركي والتي من الممكن وصفها بأروع العبارات وهي “تصفير المشاكل مع الدول المجاورة”، منهجًا ملائمًا ولاسيما في تلك المنطقة التي تعج بالتوتر. ولسوء الحظ، لم يدم هذا الوضع طويلاً، فبعد أن اجتاح الربيع العربي المنطقة، شعر أردوغان على الفور بوجود تغيير جذري، بغض النظر عن رهانه الخاطئ.
ومن هذا المنطلق سعى أردوغان نحو إعادة تركيا إلى مكانتها كإمبراطورية عثمانية جديدة عاصمتها “إسطنبول”، ويكون هو سلطانها الجديد، وبالتالي قدمت “أنقرة” الدعم إلى جماعة الإخوان المسلمين في مصر وغزة. وفي الوقت نفسه، انهارت “سياسة الجوار” التي ينتهجها حزب العدالة والتنمية التركي بسبب الموقف العسكري المعادي لبشار الأسد، فنهاك العديد من المجموعات المتمردة قد اتخذت من تركيا منصة لشحن حروبها داخل سوريا، ومن ثم شكلت التظاهرات المحلية المتزايدة تهديدًا لسلطة أردوغان.
وفي ظل حساباته السياسية الخاطئة وتنامي قوة المعارضة الداخلية، صوب أردوغان تركيزه على توطيد سلطته في منصب الرئاسة من خلال تحويل الرئاسة إلى مركزٍ للقوة وإعادة صياغة الدستور وهو الأمر الذي يتطلب العديد من الانتخابات والاستفتاءات.
بدأت الأزمة الاقتصادية التركية، حوالى العام 2013، في النمو بنسب خطيرة، وفي ظل انتعاش الاقتصاد الأمريكي – ويصاحب ذلك تعاظم قوة الدولار الأمريكي – استفحل العجز التجاري الجاري لدى تركيا، وبدلاً من اتخاذ إجراءات حكيمة للمحافظة على استقرار الاقتصاد ومنها إقرار سياسة نقدية صارمة، انصاع البنك المركزي إلى رغبة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” وهو الإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة لأن الرجل لا يريد الاعتماد على تكاليف الاقتراض المرتفعة قبل الانتخابات. وهناك عباره أخرى كان يرددها الحزب في إطار إدارة الحملات الانتخابية وهي “انتخب حزب العدالة والتنمية التركي، وسُتحل المشاكل الاقتصادية”.
وبدلاً من ذلك، تضاعفت المشاكل الاقتصادية، كما توقع البعض بعد أن عصف الخيال الاقتصادي بأي رأي من الآراء الاقتصادية التقليدية. والآن وفي ظل تهاوى الليرة التركية وعجز أردوغان عن اتخاذ خطوات للحد من وطأة أزمة أسعار الصرف أو عدم رغبته في ذلك، أصبحت المشاكل المالية لدى تركيا مفيدة للأسواق الأخرى الناشئةـ لأسباب أولها أن الدّين آفة من الآفات الاقتصادية، وفي ظل تنامي قوة الاقتصاد الأمريكي، فإن الديون الخارجية في الأسواق الناشئة من أمثال جنوب أفريقيا والهند والأرجنتين وتركيا ستكون عقبة متنامية أمام الاقتصاد المحلي لتلك الدول.
ثانيًا، لا يبدو أن العجز التجاري المرتفع في حسابات العديد من الأسواق الناشئة سيضمحل في القريب العاجل، ومعنى هذا أن هناك حاجة إلى تدفقات رأس المال الأجنبي الباهظة لدعم ميزان المدفوعات. وتواجه جنوب أفريقيا، تلك الدولة التي تتخلص ببطء من فساد رئيسها الأسبق “جاكوب زوما”، عجزًا مرتفعًا في حسابها الجاري، وشهدت عملتها هذا العام انخفاضَا مقداره “17%” مقابل الدولار الأمريكي. وتحاول الأرجنتين، والتي رفعت في خطوة مفاجئة أسعار الفائدة بمقدار “5%” هذا الأسبوع، رفع قيمة الفائدة إلى أقصى نسبة ممكنة، غير أن المؤشرات تؤكد على أن العديد من الأسواق الضعيفة ستفشل في توفير مثل تلك التدفقات الأجنبية.
وعلى مدار العقد الماضي، بحث المستثمرون العالميون عن الأسواق الناشئة ورأوا أشخاص مثل “شيمشك” – أذكياء وحذرين ويتشوقون إلى رؤية بلادهم تمارس دورًا حقيقيًا على الساحة العالمية. وفي الوقت الراهن، تكشف لنا الأزمة التركية عن الجانب المظلم في تلك القصة وهو أن القادة المتهورون قادرون على ممارسة صلاحيات مطلقة وبأي تكلفة لكي يكون الوضع الاقتصادي مرهونًا ببقائهم في السلطة. ولما كانت تركيا مركز الأزمة الحالية، فمن المتوقع أن تزداد رقعة الهزات الاقتصادية مع تقدم فصل الصيف.