لا يزال الدبلوماسيون والمحللون في جميع أنحاء العالم يحاولون فك شفرة الانقلاب الدبلوماسي الصيني المذهل المتمثل في التوسط في اتفاق سلام بين المملكة العربية السعودية وإيران، وبخلاف ظهور الصين في دور جديد وغير مسبوق كصانعة سلام في الشرق الأوسط، فإن أكثر ما يتبين للأمريكيين هو أن الولايات المتحدة بدأت تفقد نفوذها في المنطقة وأن الصين بدأت تتولى بهدوء دورها القيادي الدبلوماسي.

ويُعد نجاح الصين في الوساطة في الاتفاق المُعلن عنه في 10 مارس أمرًا هامًا من عدة نواحٍ، وبالرغم من ضرورة فهم أهم التحفظات بشأن الدور الذي لعبته الصين، فإنه من المهم أيضًا التفكير في مغزى بكين الاستراتيجي وراء ذلك الانتصار الدبلوماسي وماذا قد يعني ذلك للوساطة الصينية وتدخلها في المناطق الساخنة الأخرى في العالم مُستقبلًا.

وبالرغم من هذا الإعلان الكبير، فإن تفاصيل الاتفاق لا تزال غامضة، وصحيح أن إيران والسعودية ستعيدان العلاقات الدبلوماسية. ولكن التفاصيل حول التنازلات التي قدمها كلا الجانبين تظل غير معروفة إلى حد كبير، مما يجعل من الصعب تمييز مدى انخراط الصين كوسيط في قضايا ومقترحات بعينها تهم الجانبين معًا. ووفقًا لمصدر دبلوماسي إيراني، كانت المملكة العربية السعودية هي من تواصل مع الصين لتسهيل الحوار، وكان هذا خلال زيارة الرئيس شي جين بينغ إلى الرياض في شهر ديسمبر، ثم نقلت الصين الرسالة خلال زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى بكين في شهر فبراير. إلا إنه ليس من الواضح ما إذا كانت الصين قد شاركت في أي مقترحات جوهرية خلال عملية تفاوض، كون المملكة العربية السعودية وإيران تفاوضا على شروطهما الخاصة.

وليس من الصواب وصف الصين بـ “صانع” اتفاقية السلام هذه، حيث كانت المحادثات السعودية الإيرانية مستمرة منذ بعض الوقت، خاصة في العراق حتى تغيرت القيادة في بغداد العام الماضي. ويبدو أن الصين قد تصرفت بناءً على القوة الدافعة والزخم الإيجابي بين الدولتين وأدارت الأمر، ولم تهندسه أو تُـنشئه.

إن الدافع الأساسي وراء الاتفاق الإيراني السعودي هو الرغبة الحقيقية في المصالحة في المنطقة، ففي وقت يخيم فيه عدم اليقين على العالم وفي وجه التحديات المحلية والاقتصادية الملحة، فإن دول المنطقة، بما في ذلك إيران والمملكة العربية السعودية، تود تهدئة حدة التوترات.

وفي هذا الصدد، فإن قوة الصين تكمن في الحفاظ على علاقتها مع كل من إيران والمملكة العربية السعودية، بدلاً من مجرد الوساطة بينهما، ومع استمرار تدهور الوضع الداخلي لإيران وزيادة الضغوط الخارجية، فإن الصين دون غيرها تتمتع بنفوذ حاسم باعتبارها واحدة من الشركاء القلائل المتبقين لإيران. حيث يعزز هذا النفوذ الثقة في قدرة الصين على ضبط سلوك إيران أمام المملكة العربية السعودية. لقد أثبتت الصين نفسها كشريك اقتصادي نشط وموثوق للمملكة في العقود الماضية. والعلاقات المتدهورة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، مهدت الطريق للرياض للجوء إلى بكين.

ومن الواضح أن الاتفاق السعودي الإيراني يعد انتصار كبير للصين، بغض النظر عما قدمته الصين بالفعل أو ما إذا كانت ببساطة قد استغلت الفرصة، فإن الوضع الراهن هو أن الصين برزت كلاعب قوي رئيسي في الشرق الأوسط. والأهم من ذلك، في الوقت الذي تقوم فيه الولايات المتحدة وإسرائيل بالتنسيق بشأن ردودهما على برنامج إيران النووي، يشكل الاتفاق التي توسطت فيها الصين تناقضًا حادًا مع تلك التوترات المتصاعدة، مما يثير تساؤلات حول التحالف الإقليمي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد إيران وديناميكيات التعامل مستقبلًا في المنطقة.

وتركز علاقات الصين في العادة مع المنطقة على إمدادات الطاقة بدلاً من التأثير السياسي، حيث أصبحت الصين الآن أكبر مشترٍ لنفط الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن بكين قد اقترحت مبادرات سلام بشأن إسرائيل وفلسطين وكذلك سوريا، فإن الخطط كانت في الغالب محض مواقف سياسية دون مضمون بشأن حل النزاع أو التنفيذ. لكن في السنوات الأخيرة، عززت العلاقات الاقتصادية الرؤية الدبلوماسية للصين في المنطقة. وفي ظل منافسة القوى العظمى مع الولايات المتحدة، فإن الانتصار الدبلوماسي أمر لا يقدر بثمن بالنسبة للصين.

وعلى الصعيد الإستراتيجي، فإن اتفاقات الشرق الأوسط بالنسبة للصين لا يتعلق فقط بالشرق الأوسط، بل بفرض نظام عالمي بديل وإرساء السلام والأمن وفق تصور الرئيس الصيني شي ومبادرة الأمن العالمي الخاصة به. حيث تتمحور تلك المبادرة حول مفهوم الأمن الجماعي والتعاوني الشامل والمستدام لجميع البلدان، والذي يتناقض من وجهة النظر الصينية مع “الفوضى وعدم الاستقرار” التي سادت تحت القيادة الأمريكية. وبدلاً من السعي للحصول على موافقة الولايات المتحدة مع الصين على النظام الدولي الحالي، يسعى العديد من الشركاء الصينيين إلى مبادرة الصين كنموذج بديل للنظام العالمي، ولا يقتصر الاتفاق السعودي الإيراني على نسب الفضل لقيادة شي في بداية ولايته الثالثة فحسب، بل ويُعد أيضًا دليلًا على أن رؤية الصين للعالم البديل تتمتع بالمصداقية، وقابلة للتطبيق، بل وحتى متفوقة على غيرها.

بالتزامن مع زيارة الرئيس الصيني “شي” لموسكو هذا الأسبوع، فإن نجاح الصين في الاتفاق السعودي الإيراني يرفع حتمًا التوقعات بشأن دور بكين المحتمل في حرب أوكرانيا. ومع ذلك، فإن الاختلاف الأساسي بين الوضع الروسي الأوكراني والعلاقات السعودية الإيرانية هو أن الرياض وطهران تريدان تحسين العلاقات. بينما لا تريد روسيا ولا أوكرانيا إجراء حوار للتفاوض بشأن نهاية الحرب، على الأقل ليس في المستقبل القريب.

من المتوقع أن يقوم الرئيس الصيني “شي” بدور الوسيط الدبلوماسي المتنقل بين روسيا وأوروبا، وبين روسيا وأوكرانيا، وستحاول الصين تقديم نفسها كصانع سلام وليس كوكيل لروسيا. لكن اتفاق السلام هي شيء مختلف تماما. لكن إذا تمكن “شي” من إقناع روسيا ببدء حوار مع أوكرانيا، فسيكون ذلك نجاحًا دبلوماسيًا عظيمًا آخر يضاف إلى رصيده بغض النظر عن نتيجة ذلك الحوار.

 

يون سون هو مدير برنامج الصين، والمدير المشارك لبرنامج شرق آسيا في مركز ستيمسون بواشنطن العاصمة.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: