من ضمن التحديات الهائلة التي تواجه رئيس مالي؛ تنذر بعضها بأن الجوانب الفنية الخاصة بإصلاح المحكمة الدستورية ربما ترغم الرئيس على الاستقالة في منتصف فترته الرئاسية الثانية، والأسوأ من ذلك هو أنه قد ينتهي به المطاف بتسليم البلاد للمتطرفين الإسلاميين.

حيث أكملت مالي شهرها الخامس من الاحتجاجات المناهضة للحكومة بسبب قرار صدر في شهر إبريل يقضي بإبطال نتائج انتخاب 30 عضوًا برلمانيًا، وهو ما يساوي خُمس إجمالي مقاعد البرلمان.

فقد رفضت مجموعة من قادة غرب أفريقيا خطة ترمي لإنهاء الأزمة السياسية، مما جعل مصير الرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا على المحك. وقد أخذ المحتجون في شوارع العاصمة باماكو هدنة بسبب عيد الأضحى، لكنهم عادوا مجددًا إلى الشوارع يوم الثلاثاء الماضي.

والواقع أن القرار الذي صدر في شهر إبريل كان سببًا رئيسيًا للمأزق الذي وقع فيه الرئيس كيتا، لكن الاضطرابات التي ظهرت في الخلفية تعُد مشكلة مالي الحقيقية، وهي التمرد العسكري المستمر في منطقة الساحل والذي تأثرت به مالي أكثر من أي دولة أخرى في الغرب الأفريقي.

يصعب وصف حالة الضعف التي وصلت إليها الدولة بسبب أفعال المتمردين الإسلاميين. فخلال العام الماضي، سقطت ضحايا في جميع مقاطعات البلاد، وارتفع عدد المشردين جراء أعمال العنف ليصل إلى 200 ألف شخص على مدار 12 شهرًا، وتعرضت مئات المدارس للإغلاق، وأدّى عنف الجهاديين إلى تدمير الدولة بصورة شاملة. وإذا سقط الرئيس كيتا، سيتمكن الجهاديين من الإعلان عن مسؤوليتهم المشبوهة في الإطاحة بأول حكومة في غرب أفريقيا.

ولم تعد حكومة كيتا الضحية الوحيدة لهذا المأزق، فموريتانيا تعُد واحدة من الخمس دول – إلى جانب مالي وبوركينا فاسو وتشاد والنيجر – التي تشكل تحالف الساحل الخماسي، الذي يمتد على شكل حزام جنوب الصحراء الكبرى ويتمتع بدعم الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إلا أن عنف الجهاديين قد انتشر إلى ما وراء أراضي دول تحالف الساحل، وامتد من غرب أفريقيا جنوبًا ليصل إلى خليج غينيا.

وفي شهر فبراير تم الهجوم على مركز للشرطة داخل أراضي بنين على الحدود مع بوركينا فاسو، ولم يتم تحديد هوية المهاجمين، لكن أسلوب الهجوم – هجوم مفاجئ ينفذه رجال مسلحون ببنادق ويستقلون دراجات نارية في الساعات الأولى من الصباح – يشير بأصابع الاتهام لمسلحي منطقة الساحل. فقبل شهور من هذا الهجوم حذّر رئيس توجو من أن الجهاديين بات لهم مكان داخل حدود دولته التي تشترك أيضًا في الحدود مع بوركينا فاسو والتي تعُد حدودًا سهلة الاختراق، وأشار رئيس توجو إلى أنه ” إن لم يتم حل هذا الصراع في دولة واحدة، سوف يمتد جنوبًا ليطال الدول الساحلية”.

ويثير تنبؤ رئيس توجو القلق خاصًة لأن البيئة الاجتماعية في الدول الساحلية شبيهة بتلك الموجودة في الدول الشمالية المجاورة لمنطقة الساحل: فالمنطقة الشمالية فقيرة والمنطقة الجنوبية غنية، مع وجود مظالم عرقية واقتصادية يمكن للميليشيات التي تملك السلاح والمال استغلالها بكل سهولة.

ومن الممكن أن يصبح ساحل العاج من أكثر الأماكن خطورة، حيث شهد في شهر يونيو أسوأ الهجمات على مدار 4 سنوات، وذلك حين قام مسلحون بعبور الحدود من بوركينا فاسو إلى داخل أراضي ساحل العاج و قتلوا ما لا يقل عن 10 جنود . يغذي هذا العنف المتقطع على هذا النحو حالة عدم الاستقرار ومن الممكن أن يكون القادم أسوأ، حيث يجد عنف الجهاديين أرضًا خصبة بسبب الانقسامات السياسية، ومن المتوقع أن تشهد الانتخابات الرئاسية في ساحل العاج والمقرر انعقادها في شهر أكتوبر القادم انقسامات حادة.

وبعد مرور أسابيع فقط على هجوم شهر يونيو، لقي المرشح الأوفر حظًا رئيس الوزراء أمادو جون كوليبالي حتفه بشكل مفاجئ، مما ألقى بظلال المجهول على الانتخابات المزعمة. وعلى الرغم من سرعة النمو الاقتصادي إلا أن ساحل العاج لا تزال تعاني من الضعف على المستوى السياسي، وقد أسفرت نتائج انتخابات عام 2010 المتنازع عليها عن إطلاق شرارة حرب أهلية قصيرة راح ضحيتها الآلاف، وسيحرص الجهاديون على استغلال أية فرصة لإعادة أعمال العنف.

ورغم أن تكتيكات تلك الدول تبدو واضحة إلا أن الاستراتيجية الشاملة التي تعتمدها تظل غامضة، وعلى الرغم من نقاط التشابه بين تلك الدول المتنوعة إلا أن هذا الصراع عبارة عن مجموعة من المعارك الصغيرة بين الميليشيات مع تقلُب التحالفات خاصة بين المواطنين الذين لديهم مخاوف ومظالم. ولا يزال احتمال نجاح الميليشيات الإسلامية في تأسيس “خلافة في غرب أفريقيا” على غرار داعش مسألة بعيدة المنال.

وربما لا يحتاج هؤلاء لتأسيس تلك الخلافة على أي حال. فعبر زعزعة الاستقرار في العديد من الدول، صعب الجهاديين على أي حكومة وطنية الاستفادة من الدعم العسكري الدولي ومن ثم التأكيد على سيادة تلك الحكومات على حدود بلادها. إن خوض الحروب يشبه لعبة “سد الثقوب” في الصحراء؛ لأنك بمجرد أن تنجح في سد ثقب ما، سينبثق ثقب آخر في مكان آخر.

إن شكل هذا الانتصار لا يبدو واضحًا حتى الآن، فقد امتلكت كل من سوريا والعراق حدودًا مستقرة قبل أن تنشب الحرب في كل منهما، وكانت المهمة تتلخص في عودة الاستقرار لهاتين الدولتين، لكن طالما كانت الحدود في منطقة الساحل مخترقة، لذا فإن القضاء على الجماعات المسلحة يجب أن يتم في إطار مشروع يشمل المنطقة ويعمل على بناء الدولة، وهناك القليل من القوى الخارجية التي تملك الحماس للعمل في هذا الإطار.

وعبر تدخلهم في مشكلات مثل الفقر والعرقية والفساد، يمكن للجهاديين إضعاف الدولة بما يكفي لتفكيك الانقسامات الأخرى كي تؤدي إلى تدمير البناء السياسي، ثم بعد ذلك، كما حدث في العراق وسوريا، يتدخل الجهاديون بعد حدوث الانهيار.

وطالما سادت الاضطرابات في دول غرب أفريقيا، فإن تلك الدول ستكون دومًا تحت رحمة العنف المتقطع الدامي. وسيؤدي قرع طبول العنف بشكل منتظم في النهاية إلى إسكات أية أصوات سياسية، ولن يكون رئيس مالي آخر ضحايا تلك العملية.

 

يؤلف فيصل اليافعي حالياً كتاب حول الشرق الأوسط، كما أنه يظهر كمعلق بشكل متكرر على شبكات التليفزيون الإخبارية الدولية، وقد عمل بالعديد من وسائل الإعلام المعنية بالأخبار مثل غارديان و”بي بي سي” وعمل مراسلاً بالشرق الأوسط وشرق أوربا وآسيا وأفريقيا.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: