بعد وصولي لابو ظبي لأول مرة في عام 2008، مكثت لعدة أشهر في فندق في منطقة النادي السياحي في وسط المدينة. وفي معظم الليالي، عند عودتي إلى غرفتي في وقت متأخر بعد العمل، عادةً ما كنت أطلب المقبلات اللذيذة من قائمة الطعام. وكان طبق المقبلات الذي يتميز بحمص ناعم مزين بالطحينة هي أول طعام شرق أوسطي اتناوله في المنطقة، ولم أشبع منه أبداً. على الرغم من صعوبة عمل نفس طبق الحمص البسيط، إلا أنني أحاول أحيانًا، وعندما أنجح في عمل نفس الطبق، يعيدني المذاق إلى دولة الإمارات العربية المتحدة. ولكن يبدو أن في هذا الموضوع خطأ ما. فقد ارتكبت للتو جريمة “الاستيلاء الثقافي”، وهي إحدى الجرائم العديدة التي حددها الجيل “المستيقظ” الجديد.
إذا كان مصطلح “مستيقظ” لا يعني لك شيئًا، فتوقع مصائب تأتيك من كُل حدبٍ وصوب. فقد تبنى هذا المصطلح وسائل التواصل الاجتماعي في جميع أنحاء العالم، وسرعان ما تضرب موجة من رفض السلوكيات البسيطة والقائمة على الاعتداد بالذات من قبل الجيل المستيقظ بشواطئ الشرق الأوسط وآسيا وأماكن أخرى.
ويصف مصطلح “مستيقظ” حالة ذهنية مرحب بها، وهي أن يكون المرء “متيقظًا للتمييز العنصري أو الاجتماعي أوالظلم” وذلك حسب تعريف قاموس أكسفورد الإنجليزي. وهذا سلوك يجب أن نطمح إليه جميعًا. لكن “مستيقظ”تطور ليعني أكثر من ذلك بكثير.
وبدلاً من أن تلمّ ثورة قنوات التواصل الاجتماعي شمل البشرية كعائلة إنسانية كبيرة واحدة وسعيدة، كما توقع المتفائلون الرقميون ذات مرة، على العكس فقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في انتشار وباء قائم على الاعتداد بالرأي والشعور بالاستحقاق المبنى على معلومات خاطئة، حيث يعيش البعض من اصحاب الحساسية المبالغ فيها على تقنص فرص الشعور بالاستياء من سلوكيات الاخرين.
والفكرة متجذرة في حركة الحقوق المدنية التي انطلقت في الستينيات وتم إعادة إطلاقها قبل حوالي خمس سنوات، وقد تم اختطاف كلمة “مستيقظ” من قبل هؤلاء الذين نّصبوا أنفسهم كأوصياء أخلاقيين لتبرير شعورهم بالإستياء من أي سلوك على نطاق صناعي.
وما يُثير السخرية هو أن تبني كلمة مستيقظ في حد ذاته عمل من أعمال “الإستيلاء الثقافي”. وهو شيء لم يخطر على بال “المستيقظين” أنفسهم.
وافرزت هذه الحركة الكثير من السُخف. حيث تم إرغام الموسيقيين على تقديم الاعتذار او حذف اعمالهم عن طريق مقص الرقيب بسبب تبنيهم صوتاً او مظهراً ينتمي لثقافة أخرى، كما تعرض الطهاة للمضايقة بسبب إنتاجهم لأطباق مختلطة. ولم يسلم منهم عالم الموضة، فقد اتُهم لويس فويتون هذا الشهر بالاستيلاء الثقافي لإنتاج وشاح بنمط مستوحى من الكوفية الفلسطينية، في حين تم انتقاد ثلاث علامات تجارية عالمية بسبب “سرقة” تصاميم مرتبطة بالشعوب الأصلية.
لا أحد مستثنى من هذا التدقيق والتمحيص الأيديولوجي. مؤخراً تعرض الممثل مايكل بي جوردان، نجم فيلم بلاك بانثر، للتنمر الالكتروني وأُجبر على تقديم الاعتذار وتغيير اسم مجموعة المشروبات التي كان يطورها. “J’Ouvert” وهو مصطلح مرتبط بموسم الكرنفال الكاريبي، ووقع 12000 شخصًا من ذوي الأخلاق العالية على عريضة عبر الإنترنت يصفون استخدامه للكلمة بأنه “استيلاء ثقافي مسيء”.
وهذا هو الجنون بعينه، فلن يكون العالم الذي نعرفه موجودًا من دون “الاستيلاء الثقافي”، وهو مصطلح يمكن استبداله بـ “التبادل الثقافي” –والتبادل الثقافي هو آلية حيوية بثت الروح في العالم منذ أن بدأ سكان بلاد ما بين النهرين في استيراد المعادن والأخشاب التي يحتاجون إليها لخلق واحدة من أعظم حضارات العالم.
ولعدة قرون، كان المسافرون من مختلف الحضارات يتاجرون على طريق الحرير وعلى طول طُرق البخور في الشرق الأوسط، وينشرون السلع والمعتقدات والأفكار التي اصبحت جزء لا يتجزأ من النسيج الثقافي للمجتمعات في جميع أنحاء العالم. إن التعليمات الساذجة والتي تنص على “ابقي في مسارك “والتي يفضلها الانفصاليون الثقافيون، كانت لتكون غير مفهومة لأولئك الذين وضعوا أُسس العالم الحديث.
والمدن الحديثة متعددة الثقافات مثل دبي هي المظهر الحي لمد الجسور عبر الثقافات، وهو نقيض ما يدعو له هؤلاء ذوي العقول الصغيرة والمطالبين بالعزلة الثقافية والتي قد تمهد الطريق للقومية المميتة.
وإلى أي مدى يجب العودة بعقارب الساعة للوراء لتحديد المُّلاك “الشرعيين” لموروث اجتماعي ما أو لشيء تم تبنيه بعيد كل البعد عن موطنه الاصلي. هل علينا إعادة الورق إلى الصينيين؟ أم نعيد اختراع الطباعة لأحفاد العالم المخترع يوهانس جوتنبرج؟ ربما يجب عدم السماح لجميع البشر بتملك سيارة ما عدا الألمان فقط أو أحفاد كارل بنز!
ربما حان الوقت للتخلي عن البطاطا، لأن موطنها الأصلي هو أمريكا وهي عنصر أساسي لحضارات ما قبل كولومبوس، ولكن “اكتشفها” المستكشفون الأوروبيون في القرن السادس عشر؟
أما بالنسبة للحمص، فإن جميع الدول التي تقع حول البحر الأبيض المتوسط من المصريين واللبنانيين إلى اليونانيين يعتبرونه طبقًا وطنيًا. وكانت اليونان القديمة وشمال إفريقيا متواشجتين ثقافياً لعدة قرون.
وبدلاً من الشعور بالإساءة والاعتراض على “اختطاف” الأصول الثقافية، أفلا يكون بناءً وفي نهاية المطاف مفيدًا، للشعوب أن يتبنى الآخرون ثقافاتِهم ويفهمونها؟ لكن ليس هذا مايبتغيه”المستيقظون”، فكل ما يهمهم هو إيجاد ذريعة للقتال لكي يُظهروا للعالم أنهم أفضل من الأخرين خُلقياً.
فكيف لنا بتشييد خطوط الدفاع والتحصينات ضد هذا السونامي القادم من المستيقظين، والذي سيضرب بأسس التماسك الاجتماعي لأي دولة يصل إليها؟ إن تضييق الخناق على وسائل التواصل الاجتماعي ليس هو الحل. حيث اكتشفت العديد من الحكومات منذ فجر الربيع العربي في عام 2010، إن محاولة قمع حرية التعبير في هذا العصر الرقمي تحاكي محاولة إغلاق طنجرة الضغط وهي تغلي بشريط لاصق.
الحل الحقيقي يكمن في التعليم، وفي نشر الوعي في المدارس والجامعات، و يجب أن تكون الأولوية في تسليح الشباب بالمهارات اللازمة للتفكير النقدي، والسماح لهم بالبحث عن الحقائق واتخاذ قراراتهم بأنفسهم بدلاً من الانشغال بردود الأفعال السريعة من قبل زُمرة الممثلين ممن لديهم أجندات خفية وليس لديهم أي فكرة عن البعد التاريخي للقضايا التي يتحدثون عنها.
ولا حرج في تسليط ضوء التمحيص والشك على قيمنا وتربيتنا وتاريخنا، وهذه هي الطريقة التي تتطور بها المجتمعات. لكن النقاش البَناء، الذي يُسمع فيه لكلا الجانبين – شيء، والذي يحصل في الواقع شيء أخر. أن إن الوحش المتربص بنا في خبايا العالم الرقمي لا يسمع صوت المنطق ولا يهتم إلا بإحداث فوضى اجتماعية.
ولن يأخذ مني طبق الحمص.
جوناثان جورنال صحفي بريطاني، كان يعمل سابقًا مع التايمز ، وقد عاش وعمل في الشرق الأوسط وهو الآن مقيم في المملكة المتحدة