مضى قرابة العام منذ أن صرح جورج أوزبورن -رئيس المتحف البريطاني- بكل ثقة بأن مؤسسته المرموقة بإمكانها التغلب على التحديات التي تفرضها عليها البنية التحتية المتهالكة، ومطالب استرداد المقتنيات، والتغيرات التي طرأت على ميزان القوى العالمية.
وقال أوزبورن إنه في عهد تغلب عليه النزعة القومية الشائكة وسياسات الهوية، سيطرح المتحف منظورًا بديلاً بصفته “متحف إنسانيتنا المشتركة“، وذلك في أثناء تقديمه عرضًا لتاريخ العالم أمام جميع الحاضرين.
إلا أن المستمعين من غير البريطانيين قد استشعروا من وراء هذه النبرة الانفتاحية الحالمة -على ما يبدو- شيئًا من التباهي والاستعلاء في حديثه. فكأن أوزبورن يقول إننا سنقف أمام العالم نعلمه التاريخ بتصرفاتنا النبيلة، ولكن مهمة استعراض إنجازات الإنسانية ستكون شرفًا بريطانيًا في نهاية الأمر، لتعكس اختيارات بريطانيا في الأمور المهمة، وتمنح اللقب البريطاني لبعض من أروع الكنوز الثقافية على مستوى العالم دون شك.
يبدو الآن أن فقاعة الثقة التي يحيط بها أوزبورن نفسه قد تلاشت بسبب الفضائح الغريبة التي تكشفت هذا الصيف عما يجري في المتحف. إن الكشف عن فقدان ما يصل إلى ألفَي قطعة أثرية (أو بيعها عبر الإنترنت في بعض الحالات) كان كافيًا لإجبار هارتوج فيشر مدير المتحف السابق على الاستقالة تحت وطأة الشعور بالحرج الشهر الماضي.
سرعان ما أصبح جليًا أن هذا التطور الغريب كان دليلاً على مشكلة أعمق: فقد أخفقت المؤسسة في الحفاظ على مخزون يُقدر بنحو 8 ملايين من مقتنياتها، وهذا يرجع بعض الشيء إلى تدني الماديات والمعنويات، وانخفاض الميزانيات، وضعف المرتبات.
وقد أدى كل ذلك بدوره إلى تزايد حدة مطالبات البلدان بحقها في مقتنيات المتحف؛ بداية من اليونان ومطالبتها القائمة منذ زمن باسترداد المنحوتات التي استولى عليها الدبلوماسي الطامع اللورد إلجين من البارثينون وأكروبوليس. وقد أعلنت لينا ميندوني -وزيرة الثقافة في البلاد- أن أي إشارة إلى أن الكنوز كانت أكثر أمنا في لندن من اليونان لم تكن سوى حجة واهية بكل بساطة.
في الوقت نفسه أشارت Global Times -وهي صحيفة تابعة للحزب الشيوعي الصيني- إلى أنه ينبغي للمتحف إعادة جميع القطع الفنية الصينية البالغ عددها 23000 قطعة التي بحوزته. وعلى الرغم من أن هذا لم يكن مطلبًا رسميًا بشكل تام، فإنه تذكير بما يشعر به ذلك الشعب في بكين دون شك.
سيواجه مارك جونز -الذي أعقب فيشر في رئاسة المتحف- صعوبة بالغة في إعادة المتحف إلى وضعه التشغيلي الأساسي. وستتمثل وظيفته في مجرد السيطرة على ما وقع من أضرار، ولا تكاد أن تكون فرصة لرسم المستقبل الواعد الجديد الذي وعد به أوزبورن في نوفمبر الماضي.
هل يمكن الحفاظ إذن على شيء من رؤية “متحف إنسانيتنا المشتركة”، الذي -على الرغم من وجوده في لندن- يشارك علومه ومقتنياته مع العالم، وينجح في جمع أموال الرعاية من جميع أنحاء العالم؟
حتى نرى بصيص أمل في حدوث ذلك، لا بد من تغيير أمرين.
أولاً، لا بد من أن تتجاوز المؤسسة الثقافية البريطانية (بما في ذلك المشرِّعون الذين تكون موافقتهم لازمة لتغيير مجال الاختصاص القانوني للمتحف) رفضها الجذري للاسترداد الانتقائي في الحالات التي يثبت فيها دليل دامغ يقتضي الاسترداد.
ربما تُعد منحوتات البارثينون أكثر الحالات وضوحًا في ذلك الشأن؛ وهذا لأن الزخارف الجدارية التي يبلغ طولها 160 مترًا، والتي كانت تحيط بمعبد أثينا ذات يوم تمثل تحفة فنية واحدة يُعرض نصفها الآن في لندن، بينما يوجد ثلثها في أثينا، وتتناثر القطع الأصغر حجمًا في أماكن أخرى. وهذه الصور الفنية التي تتألق في سماء اليونان وتفتقر إلى الجزء “البريطاني” المفقود منها تمثل حالة واضحة أيضًا لتجميع القطع الأثرية في أثينا.
إذا أمكن التخلص من العقبات التي تحول دون نشأة علاقة ثقافية مثمرة بين اليونان وإنجلترا بطريقة ما، فثمة عدد هائل من الاحتمالات الممكنة لعرض القطع الفنية اليونانية الأخرى عرضًا تعاونيًا في لندن وغيرها.
ومن تلك الحالات الاستثنائية أيضًا “برونزيات بنين”، وهو مصطلح عام يُطلق على الأثريات التي أُخذت من مدينة بنين، التي تُسمى نيجريا في وقتنا الحالي، في أثناء رحلة استكشافية استعمارية قامت بها بريطانيا عام 1897، مع ملاحظة مدى وحشية الغزو. وهذا الأمر معترف به من حكومتَي فرنسا وألمانيا، وكذلك عدد من المتاحف البارزة في الولايات المتحدة، وبعض المتاحف البريطانية.
إن التعامل مع هذه الحالات على نحو عملي يخلو من التعالي لن يقدح في حق المتحف في الإشراف على مجموعة واسعة وفريدة من القطع الفنية. بل قد يؤدي أيضًا إلى إعلاء شأن المؤسسة الأخلاقي.
أما الشرط الثاني لازدهار هذا المتحف الكائن في لندن هو إعادة النظر التخيلية في إدارته وأوضاعه. فإذا كان من شأن هذا المتحف أن يصبح متحفًا للإنسانية، فلا بد من أن يحمل شيئًا من المسؤولية أمام رعاة الثقافة الإنسانية الحكماء.
تُعَد من بين نقاط القوة العديدة التي تجعل لندن مدينة عالمية اشتمالها على عديد من المؤسسات مثل مراكز البحوث، والهيئات الثقافية والتعليمية، وكذلك جماعات الضغط الإنسانية، والمنظمات القائمة على المعاهدات، التي تتمتع بقيادة وتمويل عالمي بالكامل. وفي بعض الحالات، تكون لهذه الهيئات مكانة دبلوماسية خارج البلاد. بينما تمثل المنظومة الأخلاقية العالمية في بعض الحالات الأخرى انعكاسًا للإدارة والتمويل. هذا إلى جانب خيارات كثيرة يمكن التفكير فيها.
كذلك قد تلعب منظمة اليونسكو دورًا، وهي التي -على الرغم من جميع نقاطها الخلافية- تمثل هيئة معترف بها في جميع أنحاء العالم بوصفها جهة اعتماد لكل ما له أهمية كبيرة في التراث الثقافي العالمي.
ليكن هناك متحف للإنسانية المشتركة؛ ولكن ينبغي ألا تكون إدارة هذا المتحف حكرًا على قوة منفردة كان لها تاريخ استعماري.
بروس كلارك هو كاتب ومحاضر، وله إسهامات في جريدة The Economist، ومؤلف كتاب Athens: City of Wisdom. X: @bruceclark7