يقضي الإيمان الراسخ غير الرسمي للقوات المسلحة الأمريكية “بعدم التخلي عن أي محارب” وتلك العبارة محفورة بعمق في الوعي العام العالمي، وذلك بفضل عدد لا يحصى من أفلام الحرب التي يسلك فيها الجنود المسلك الصحيح مع رفاقهم. ولكن كما تظهر الأحداث الجارية حاليًا في أفغانستان، عندما يتعلق الأمر بالعديد من آلاف المترجمين الفوريين الأفغان الذين خاطروا بحياتهم على مدى العشرين عامًا الماضية لمساعدة قوات التحالف، فإن هذا الوعد هو وعد أجوف ولا قيمة له.
وجاء الانسحاب المتسرع لقوات التحالف من أفغانستان وعودة ظهور طالبان المتوقعة بمثابة حكم واضح بالإعدام على أي شخص ساعد “العدو” خلال السنوات الطويلة التي تلت الإطاحة بطالبان في عام 2001
فقدعمل سهيل برديس البالغ من العمر 32 عامًا مع الأمريكيين كمترجم لما يقرب من 18 شهرًا، قبل إنهاء خدماته في عام 2012، بعد فشله في اجتياز اختبار جهاز كشف الكذب. وقد تم استخدام جهاز كشف الكذب وهو اختبار غير موثوق به “للكشف عن الكاذبين”، بشكل منتظم لمسح الأفغان الداخلين إلى قواعد التحالف. وفي الآونة الأخيرة، تم استخدامه كجزءً من عملية الموافقة على شروط التأشيرة للموظفين الأفغان السابقين في القوات الأمريكية وغيرها من القوات الأجنبية الذين يسعون لبدء حياة جديدة في الخارج.
وقد كلف الفشل في اجتياز اختبار جهاز الكذب بارديس فرصته في حياة جديدة في أمريكا، بل كلفه حياته كلها. ففي مايو الماضي، وبعد فترة طويلة من عودة الأمريكيين إلى بلدهم الآمن بعد أن قدم لهم يد العون والمساعدة، أوقفت حركة طالبان برديس عند أحد الحواجز وقطعت رأسه على جانب الطريق.
ولا يُعد بارديس حالة فردية، حيث تشير مصادر المعلومات إلى إن الآلاف من أمثاله قد قُتلوا بالفعل على يد طالبان. ومع تردد حكومات قوات التحالف ورفضها منح التأشيرات لمجرد أسباب بيروقراطية، فمن المرجح أن يموت آلاف آخرون بالتزامن مع بسط طالبان سيطرتها على أفغانستان.
وفي يونيو الماضي، وعدت طالبان بعدم إيذاء الأفغان الذين عملوا مع القوات الأجنبية، ولكن لا أحد ممن تلقوا تهديد بالقتل يصدق ذلك الوعد، بما في ذلك أحد اللغويين الذي قال لشبكة سي ان ان مؤخرًا إنه عمل لمدة خمس سنوات إلى جانب القوات الخاصة الأمريكية ولكن طلب التأشيرة الذي قدمه تم رفضه. ولا يهم إن كان قادة فرق البحرية الذين ساعدهم قد أكدوا على جودة خدماته في شهادات مكتوبة، حيث أفاد أنه “تحدى مرارًا وتكرارًا نيران العدو وأنقذ حياة الأمريكيين والأفغان على حد سواء”.
وحياته الآن معرضة لخطر كبير.
وقال أحد المترجمين السابقين للقوات الخاصة البريطانية، والذي مثل الكثيرين لا يزال ينتظر طلب التأشيرة الذي قدمه والذي تأخر طويلاً، قال لصحيفة تليجراف البريطانية إن “آلاف المترجمين الفوريين قتلوا وكل مترجم يعرف شخصا قتلته حركة طالبان “. وقال آخر لصحيفة التلغراف: “لقد استمتعت بالعمل مع البريطانيين ولدي الكثير من الذكريات الجيدة، وأعتقد أن الشعب البريطاني عادل لكن الحكومة البريطانية مختلفة، فهم لا يعاملوننا بإنصاف “.
ومن الواضح أنه إذا تُرك الأمر للجنود الغربيين الذين اعتمدوا بشدة على خدمات المترجمين، فما كان لهم ترك هؤلاء المترجمين وراءهم. وقد كتب العديد من القادة العسكريين السابقين يناشدون الحكومة البريطانية إعادة النظر في سياستها، وفي هذا الأسبوع كانت هناك مقابلة مع ضابط بالجيش البريطاني على إذاعة بي بي سي تحدث فيها بشكل مؤثر عن المجهود الذي بذله لمعرفة ما حدث للرجال الذين خدم معهم في عام 2007.
واكتشف أن أحدهم قد قُتل بالفعل، وآخر اسمه “شريف”، رُفض طلب تأشيرته.
قال الجندي السابق: “قمنا بالخدمة في جولتنا التي استغرقت ستة أشهر، لكن شريف مكث مع الوحدات البريطانية لمدة ثلاث سنوات”.
وقد تم رفض طلب شريف لأنه تم فصله في عام 2009 “لأسباب تأديبية” غير محددة. علاوة على ذلك، اكتشف النقيب السابق أنه قد “تم فصل حوالي ثلث المترجمين الفوريين لأسباب غامضة. وهناك حاجة ماسة لإعادة النظر في تلك القضايا “.
وأضاف إن قدامى المحاربين البريطانيين والأمريكيين الذين شاركوا في الحرب الطويلة وغير المجدية في أفغانستان، “لديهم إحساس قوي بالواجب، وبالعلاقة التي تربطهم بمن عمل معهم، من المهم حقًا بالنسبة لنا، كوننا نعاني مما نشاهده في الأخبار، فيجب على الأقل عدم التخلي عن المترجمين الفوريين. وقد كانت الروابط التي جمعتنا بالمترجمين الفوريين وثيقة جداً، فقد كانوا يوصلون أصواتنا إلى المجتمع الأفغاني، وقدمنا للناس من خلالهم الضمانات بالديمقراطية والاستقرار والتقدم “.
وبالطبع لم يكن ذنب الجنود عجز حكوماتهم في نهاية المطاف الوفاء بتلك الضمانات التي قدموها، ولكنها ليست بالطبع المرة الأولى التي تقدم فيها القوى الغربية الطامعة في مكاسب سياسية أو عسكرية وعودًا ليس بوسعها الوفاء بها أو لا تنوي حتى الوفاء بها.
لقد حرضت الحكومة البريطانية العرب على الثورة ضد العثمانيين في الحجاز خلال الحرب العالمية الأولى، وكان تي إي لورنس “العرب” واجهة مقنعة لها، على خلفية الوعد الكاذب بدولة عربية بعد نهاية الحرب.
وتروي الصورة الرمزية للأمريكيين وهم يفرون بطائرة هليكوبتر من على سطح السفارة الأمريكية في سايغون في شهر أبريل من عام 1970، بينما يصرح المواطنون الفيتناميون الجنوبيون، الذي تم التخلي عنهم عند البوابات، تروي قصة خيانة لازالت عالقة في الأذهان.
وفي الآونة الأخيرة، في عام 1991 كانت أمريكا راضية عن تشجيع وحث أكراد شمال العراق على الانتفاض ضد صدام حسين، ثم تركتهم يواجهوا مصيرهم بعد استجابتهم للنداء.
بما معناه إن أفغانستان ليست سوى الحلقة الأخيرة من سلسلة طويلة من الخيانات.
ومنذ البداية، لم تكن هناك أدنى فرصة على الإطلاق في أن الجنود الأجانب ذوي النيات الحسنة، والذي يشبهون السياح في المشهد السياسي والثقافي المعقد في أفغانستان، سيكونون قادرين على الوفاء بوعود الديمقراطية والاستقرار والتقدم.
ويعيش الجنود الأمريكيون والبريطانيون الذين قدموا تلك الوعود في أمان الآن في أوطانهم. بينما من ساعدوهم يدفعون ثمن تصديقهم لأولئك السياسيين المفوهين الذين أرسلوهم إلى هناك.
جوناثان جورنال صحفي بريطاني، كان يعمل سابقًا مع جريدة التايمز، وقد عاش وعمل في الشرق الأوسط وهو الآن مقيم في المملكة المتحدة