بينما أدت السرعة المذهلة لمجريات الأحداث في السودان إلى صعوبة تصور تلك الاحداث منطقيًا؛ فإن البعض في المعارضة السودانية سخر من تلك الأحداث واصفًا إياها بأنها “انقلاب سيء” تبعه “انقلاب جيد”، وبعد أسابيع من الغضب الشعبي والمواجهات مع قوات الأمن، انتهى الأمر بالدفع بثلاثة من كبار الجنرالات إلى الهمس في أذن الرئيس الإسلامي “عمر البشير”، مؤكدين له على أن 30 عامًا من الحكم قد شهدت نهاية المطاف، وأن الرجل بات عليه الخضوع للإقامة الجبرية.

وقد قام نائب الرئيس ووزير الدفاع “أحمد ابن عوف” بتوجيه خطاب متلفز إلى الأمة وهو جالس على كرسي يشبه كرسي العرش، قائلًا إن حكم البشير قد انتهى، ومعلنًا الدخول في فترة انتقالية مدتها عامين، وعلى أي حال؛ فقد اختلطت الفرحة العارمة التي شعر بها السودانيون بالغضب تجاه بقايا نظام البشير، وتم وصف “ابن عوف” والذي يعد رفيق البشير لمدة طويلة ونائبه في ذات الوقت، على أنه شخص متمسك بالمنصب.

وبعد أقل من 24 ساعة؛ ظهر ابن عوف مجددًا على شاشة التلفاز، لكنه ظهر تلك المرة كي يعلن استقالته، وتعيين الجنرال “عبد الفتاح البرهان” – أحد الجنرالات الثلاثة الذين قاموا بعزل البشير – قائدًا للبلاد خلال الفترة الانتقالية، ويُنظر للبرهان على أنه شخص لا ينتمي لأي حزب، وأن يداه أقل تلوثًا بالفساد المتوطن في السودان، ومن ثم فإنه يعد الخيار الأفضل لقيادة البلاد خلال المرحلة الانتقالية.

لكن تعيين القائد الجديد لم يحظى بموافقة جميع السودانيين، وكثير منهم يساوره الشك تجاه قيام الجيش بقيادة البلاد خلال الفترة الانتقالية، وارتاب الكثير في مسألة قيام البرهان بتسليم السلطة، وقد ظهر هذا الشك بشكل خاص بين جماعة معروفة باسم “تجمع المهنيين السودانيين”، وهي منظمة كبرى تضم محامين ومهندسين وأطباء وعدد من المهن الأخرى، حيث طالبت الجيش بتسليم السلطة بعد فترة انتقالية سلمية، دون قيادة البلاد بشكل فعلي.

وقد قام “تجمع المهنيين السودانيين” بالاشتراك مع 12 جماعة سياسية أخرى، والتي قامت جميعها بتشكيل جبهة المعارضة ضد البشير؛ بالتوقيع على وثيقة باتت تُعرف باسم “إعلان الحرية والتغيير”، حيث طالبت ب”تشكيل حكومة انتقالية وطنية”، وبحيث تتألف من شخصيات تتمتع بالكفاءة والوطنية، وتتفق عليها جميع أطياف الشعب السوداني.

ومشكلة تلك الشروط التي تم وضعها أنها سهلة القول لكن تنفيذها لا يعد بتلك السهولة.

والمقترح السوداني بخصوص الفترة الانتقالية يعد مألوفًا، وفي العام 2011 شهدت مصر ثورة شعبية نتج عنها سقوط حسني مبارك، والمصريون أيضًا قاموا بتقديم أفكار غير مكتملة بخصوص مرحلة ما بعد مبارك، وهناك “علاء الأسواني” وهو روائي بارز يتسم بالقول الصريح ويعد أحد أنصار التغيير في مصر؛ أعلن أن الثورة المصرية شابها العديد من الأخطاء، أولها يتمثل في قيام المحتجين “بترك الشوارع والميادين”، وتساءل الأسواني خلال فعالية أقيمت بمعرض الكتاب احتفالًا بكتابه: “هل ذهبت الثورة المصرية في الطريق الخطأ؟، وأجاب: “كان يجب علينا تشكيل لجنة تعمل على تمثيل الثوار والثورة، وتضم أشخاصًا من جميع المحافظات، بغرض تحقيق أهداف الثورة”.

وتمامًا مثل ما فعل السودانيون اليوم؛ فقد قام المصريون في العام 2011 بخلع رئيسهم، وأعلنوا حينها عن رفضهم لفترة انتقالية بقيادة الجيش، وكان البديل أمام المصريين هو تشكيل “هيئة تضم أشخاصًا يتمتعون بالكفاءة والوطنية”، أو “هيئة تضم ثوارًا من مختلف المحافظات”، لكن من يستطيع أن يتخذ قرارًا حول ما إذا كان هؤلاء الأشخاص يتمتعون بالكفاءة والوطنية؟، ومن يمكن له أن يتفحص شخص ما ويقرر إذا ما كان هذا الشخص من الثوار أو لم يكن؟.

ولم يكن علاء الأسواني وحده هو من أبدى معارضته للإصلاحات الدستورية، والتي قام الجيش بطرحها على الشعب من خلال استفتاء، وقد عارض الأسواني أيضًا إجراء انتخابات برلمانية، وحجته أن فصيلي الجيش والتيار الإسلامي يعدان من أكثر الفصائل التي لديها استعداد للفوز في تلك الانتخابات، وتوقّع الأسواني أن ينجح الجيش في انتزاع النصر في الانتخابات الرئاسية ليكون من نصيب المرشح “أحمد شفيق” على حساب مرشح التيار الإسلامي “محمد مرسي”، لكن شفيق خسر تلك الانتخابات، وبات واضحًا أنه على الرغم من القدرة والنفوذ الذي يتمتع به الجيش إلا أنه فشل في الحصول على ما قام بالتخطيط له، تمامًا كما يعتقد أنصار نظرية المؤامرة، وتمامًا مثل أي هيئة اخرى؛ فقد كان أداء الجيش بدون إعداد ووفقًا لما تكشفه الأحداث، وعلى أي حال، فإن الميزة التي تمتع بها الجيش تمثلت في أنه بعد سقوط مبارك، فقد بات الجيش هو الهيئة الوطنية الوحيدة التي تتمتع بجميع أشكال الشرعية، حتى ولو كانت تلك الشرعية مستمدة من النظام السابق الذي يكن له الشعب الكراهية.

وربما كان ذلك تنفيذًا لنصيحة الأسواني، فقد تمسّك المحتجون في السودان بالبقاء في موقع الاعتصام بالقرب من القيادة العامة للجيش السوداني، حتى بعد قيام عبد الفتاح البرهان بتولي زمام الأمور، وقد حاول الجيش فض الاعتصام والعودة للحياة الطبيعية، لكن الموقعين على “إعلان الحرية والتغيير” رفضوا ترك مكان الاعتصام، على الأقل ليس في تلك الظروف، حيث أن البشير لا يزال رهن الإقامة الجبرية، ومن المحتمل عودته مرة أخرى.

ومن أجل تبرير رفضها لترك الاعتصام؛ فقد أعلنت المعارضة السودانية أنها لن تفعل ذلك إلا بعد أن يقوم الجيش بتسليم السلطة لحكومة مدنية، والسؤال الآن هو: حتى إذا ما وافق الجيش على التخلي عن السلطة؛ من يمكن له أن يخلف الجنرالات؟، هل هم المحتجون في الشوارع؟، جميعهم؟، أو ربما قلة مختارة منهم؟، ومن يحق له اختيار تلك القلة التي تخلف الجنرالات؟.

ودائمًا ما تتصف الثورات بالرومانسية والفوضى، ويمكن قياس نجاح الثورات عبر الحكام الذين نجحت تلك الثورات في الإطاحة بهم، وحتى الآن فإن الثورات نادرًا ما تكون مؤهلة لحكم الأمم خلال مرحلة ما بعد الثورة، وقد كان بطل الثورة الامريكية التي تعد بمثابة أنجح الثورات التي قامت من أجل الاستقلال عن الاحتلال البريطاني، هو نفسه أحد الجنرالات، والذي أصبح رئيسًا للبلاد خلال السنوات العشر التي أعقبت قيام الأمريكيين بطرد البريطانيين من بلادهم، والواقع أن الجنرال جورج واشنطن حظي بدعم الكونجرس المنتخب، لكن الديمقراطية في الولايات المتحدة سبقت الثورة ولم تأت خلفًا لتلك الثورة، وفي النهاية يبدوا أن الثورات والديمقراطية يعدان بمثابة قضيتين منفصلتين.

 

 

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: