تأمل كلًا من روسيا وإيران في أن يكون ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC) هو الأداة التي ستغير أحكام اللعبة بالنسبة للتجارة الدولية، ورغم أن المشروع لا يزال بعيدًا كل البعد عن العمل بكامل قوته وكفاءته، إلا أن المسئولين في كلا البلدين أكدوا أن هذا الممر سيكون بديلاً لقناة السويس.
يتألف ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC) من 7,200 كيلومتر مقسمة بين ممرات بحرية وسكك حديدية وطرق برية تربط بين مومباي وسانت بطرسبرغ، ويمتد الممر المائي من شمال روسيا مرورًا ببحر قزوين ومتجهاً إلى جنوب إيران لتسهيل حركة الشحن والملاحة عبر مضيق هرمز وإلى بحر العرب أو المحيط الهندي.
وتأمل موسكو وطهران في أن يعمل هذا الممر على التقليل من الاعتماد على قناة السويس – وهي إحدى أهم طرق الملاحة والشحن وأكثرها ازدحاماً في العالم والتي تستحوذ على 12 % من التجارة الدولية – ومساعدة كل من روسيا وإيران على تحسين أوضاعهم على الصعيد الدولي، ففي شهر مايو، أبرمت اتفاقيتان أضافتا زخمًا للمشروع، كان من ضمنهما تلك الاتفاقية التي أبرمت بتاريخ 18 مايو للتصنيع والشراء المشترك لنحو 20 سفينة شحن.
ووفقاً لمصادر روسية، فإن نقل شحنة بضائع عن طريق البحر من مومباي إلى سانت بطرسبرغ يستغرق عادة من 30 إلى 45 يوم، ولكن بمجرد تشغيل خدمة الترانزيت عبر أيران، فإن هذه المدة سوف تتقلص لتصل من 15 إلى 24 يوم، وفي تصريح له، يرى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي “أن ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC) سوف يزيد تدفق الحركة المرورية الدولية تشعباً بشكل ملحوظ، كما أنه سيقدم المزيد من المزايا الاقتصادية بشكل واضح لكل من إيران وروسيا”، إلا أن المشكلة التي تواجه المخططين الاستراتيجيين في كل من إيران روسيا هي أنه لا يوجد تأكيد على المدى الزمني القريب الذي سوف ينتهي فيه الممر– إن كان ذلك سيحدث من الأساس.
وتجدر الإشارة إلى أن المباحثات بين البلدين حول هذا المشروع مستمرة منذ أكثر من 20 عامًا، وقد توقف إنشاء السكك الحديدية لسنوات بسبب التعقيدات المالية واللوجستية وكذلك السياسية، ولعله من غير المؤكد ما إذا كان الكرملين سيقرر الاستثمار في هذا الممر في حالة قرر الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عدم فرض العقوبات على روسيا عقب غزوها لأوكرانيا.
ويرى بعض المحللين الإيرانيين أنه حتى قبل اشتعال الحرب الأوكرانية كان المسئولون الروسيون يظهرون القليل من الاهتمام بشأن بناء السكك الحديدية في ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC)، وذلك لأنهم كانوا يستخدمون ميناء نوفوروسيسك في البحر الأسود إلى الهند في شحن البضائع.
ونظراً لأن الحرب في أوكرانيا تمثل تهديداً لعمليات الشحن الروسية في البحر الأسود، فلم يجد الكرملين سبيلاً سوى البحث عن بدائل أخرى، وقد سعت موسكو بعد عزلها من الغرب إلى زيادة الروابط الاقتصادية والسياسية والعسكرية بشكل وثيق مع طهران، وقد يُنظر إلى ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC) على أنه محاولة من الكرملين لتجاوز العقوبات الغربية والاستمرار إلى حد ما في إقامة علاقات تجارية مع دول أخرى كالمعتاد.
غير أن إقامة ممر مائي يربط بين روسيا والهند عن طريق إيران لن يتمكن من حل كل مشكلات موسكو، فلكي يعمل هذا الممر بكامل طاقته، يجب على الكرملين أيضًا الانتهاء من الممر البري والذي يمتد من شمال روسيا مروراً بأذربيجان ليصل إلى شمال إيران ومنه إلى الخليج العربي، وقد وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن في السابع عشر من مايو عقداً بقيمة 1.7 مليار دولار أمريكي لبناء خط السكة الحديد رشت-أستارا، وهو مشروع يقع في شمال إيران وسيعمل بمثابة طريق رئيسي لنقل البضائع داخل منظومة ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC).
وبمعنى آخر، فإن موسكو وليس طهران هي من سيتولى تمويل انشاء سكك حديدية بامتداد 162 كيلومتر بين المدن الإيرانية رشت وأستارا، ومن المؤكد أن روسيا سوف تعمل على بناء خط السكة الحديد الذي يربط بين أستارا الإيرانية بالمدينة الأذربيجانية التي تحمل نفس الاسم، ووفقاً لما ذكره بوتن؛ فإن روسيا وإيران وأذربيجان يخططون لإبرام اتفاقية تعاون لتطوير البنية التحتية لإنشاء خط السكة الحديد لتسهيل حركة نقل البضائع على امتداد ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC).
ورغم تاريخ روسيا العريق في إنشاء خطوط السكك الحديدية في المنطقة – حيث أنشأت الإمبراطورية الروسية أول خط للسكك الحديدية في إيران والذي يربط بين تبريز ومشهد، وكذلك طهران وأصفهان – إلا أنه في ظل الظروف الجيوسياسية الراهنة لا يزال مصير خطة بوتن الطموحة غامضًا، فحتى إذا نجحت كل من موسكو وطهران في الاتفاق على إنشاء الممر البحري في مشروع ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC)، إلا أن تأثير العلاقات المتوترة بين إيران وأذربيجان سوف يلقي بظلاله على هذا المشروع في تلك المنطقة.
بالإضافة إلى كل ذلك، فإن الأمر قد يستغرق أربع سنوات على الأقل لكي تنتهي روسيا من بناء خط السكة الحديد في المنطقة، وكذلك، فإن التورط في الأزمة الأوكرانية سيجعل الكرملين في مواجهة أزمات داخلية ضخمة، الأمر الذي سيؤثر دون شك على الخطط الموضوعة لاستكمال الممر البري إلى إيران، ونظراً لأن شبكة النقل من المتوقع أن تمر عبر أذربيجان – وليس عبر الحليف الروسي أرمينيا – فمن المتوقع أن تدير أرمينيا ظهرها لموسكو، وهذه بالطبع إحدى النتائج المترتبة على قرار بوتن الخاص بإطلاق هذا المشروع الجغرافي السياسي الطموح والمحفوف بالمخاطر في نفس الوقت.
والأهم من ذلك، فإذا كان ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC) سيمر عبر أذربيجان، فإن هذا يعني أن موسكو وطهران سيعتمدان بشكل كبير على باكو الحليف المخلص لتركيا العضوة في الناتو، وكذلك حقيقة أن إيران تدعم أرمينيا ضد أذربيجان بشكل غير مباشر، وأن التوتر بين باكو ويريفان – سواء كان بسبب إقليم ناجورني – كاراباخ أو بسبب نزاعات سياسية وإقليمية أخرى – لا يزال متأججاً، كل هذا سوف يزيد من تعقيد الموقف في جنوب القوقاز، وهكذا، لا يزال أمام روسيا وإيران العديد من التحديات الجيوسياسية التي يجب التغلب عليها.
وأخيراً، هناك ارتباط وثيق بين مصير هذا الممر ومصير النظام الحاكم في كل من روسيا وإيران، فإذا واجهت أي من الدولتين اضطرابات قوية خلال السنوات القليلة القادمة، فإن مصير مشروع ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC) سيكون غامضًا.
نيكولا ميكوفيتش، محلل سياسي صربي، يرتكز أغلب عمله على السياسات الخارجية لكل من روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، مع اهتمام خاص بسياسات الطاقة وخطوط الأنابيب. تويتر @nikola_mikovic.